كانت وما زالت قضيّة الرّفق بالحيوان تَشغل حيّزًا لا بأس فيه داخل الهيكل البنيوي لثقافات الشّعوب المتنوّرة، أو التي شاءت لها الظّروف أن ترتقي إلى مستوى "البوست موديرن"، ومما لا ريب فيه أنّ لاختلاف الظّروف سياسيّة كانت أو اجتماعية أو حتّى اقتصادية، دلالاته الهامة وتداعياته في بعض الحالات، فإما أن يجعل الرّفق بالحيوان مسألةً ثانويةً في أسوأ الظروف وإما أوليّةً في أحسنها من خلال تجنيد الطاقات والقدرات المهنيّة في تطوير الطبّ البيطري. فمثلا في حالات الحرب والكوارث الطبيعيّة تمسي مسألة الرّفق بالحيوان ثانويةً، وتكرّس كل الجهود والطّاقات في سبيل التخفيف من وتيرة الخسائر البشريّة، (باستثناء الولايات المتّحدة). فما بالك لو كان الرّفق "بالإنسان" هذه المرّة مسألةً ثانويّة في هذه المرحلة من التّاريخ، والتي فيها قطعت الثقافات شوطًا طويلاً من أجل الوصول إلى الرقيّ أو ما يُعرف سياسيًّا بدولة الرّفاه الاجتماعي؟

شهد التاريخ في مرحلة ما قبل الميلاد, إبداعات فكريّة وفلسفيّة، تميّزت بطرح الحقوق الفرديّة والجماعية للبشر (سقراط، أفلاطون وكتابه الجمهوريّة)، ورأى البعض "البوليس" اليوناني القديم مهدًا للديمقراطية وحقوق الفرد والجماعة. وفي مرحلة متقدّمة من التاريخ (عصر النّهضة) ونشوء فكرة الدّولة القومية، ورثت إبداعات وفلسفيّات الحداثة مسألة حقوق الإنسان من الفكر القديم، أضحت هذه الموروثات الفلسفيّة قيمًا عليا ومعايير تُقاس من خلالها قدرة الأنظمة السياسية في الصّمود أمام تحديّات العصر، وحتّى هوبس الذي برّر الدكتاتورية والاستبداد في كتابه "الحوت" بقوله أن المجتمعات بحاجة ماسّة إلى قائد قوي قادر ومتسلّط لكي يرقى بها إلى أعلى المراتب، وقف صلبًا أمام انتهاك حريّة الفرد، بل واشترط على القائد أن يضمن هذه الحقوق ولو بالحدّ الأدنى مقابل حصوله على الشرعيّة السياسية بالحكم. ومكيافيلي، لم يطرح القائد (الأمير) بصورة تنال من الحقوق الطبيعيّة للفرد والجماعة، بل وسّع آفاق فلسفته المشهورة "الغاية تبرّر الوسيلة" من خلال التأكيد على ضرورة احتواء هذه الغاية على قيم الحرية المثلى للفرد والمجتمع.

في إسرائيل تطبّق نظرية الرّفق بالحيوان أولاً عندما يتمّ الحديث عن العرب، وتبقى أوراق الرّفق بالإنسان على الرفّ إلى أجل غير مسمّى، ففي إحدى القرى العربيّة الغير معترف بها في الجليل, والتي تعاني من الحرمان في قطاع الكهرباء والماء، يضطرّ أحد سكان هذه القرية، إلى اصطحاب طفله ابن السادسة إلى أقرب محطّة وقود من أجل تشغيل جهاز طبّي لغسل الكلى (دياليزا ـ dialysis) !!! في المقابل وعلى بعد أمتارٍ معدودة من هذه القرية، تقع مستوطنة يهودية, تنعم الخيول في إسطبلاتها بعزّ الكهرباء، وتشغّل أجهزة الموسيقى للأبقار والأغنام فيها خلال عمليّة الحلب، ولا ننسى قبل بضع سنوات، حين أصدرت بلديّة حيفا (برئاسة حزب العمل) بيانًا هامًّا تتوعّد فيه بأقصى العقوبات التي قد تصل إلى عقوبة السّجن، لكلّ من يُضبط بسرقة قطّة!! وذلك في أعقاب الشّكوى التي وجهها سكّان المدينة اليهود للبلدية، والتي عبّروا من خلالها عن غضبهم الشّديد من ظاهرة سرقة القطط التي يقوم بها العمّال الأجانب من تايلاند والصّين، باعتبار القطط المدلّلة وجبةً شهيّة عند شعوب دول الشّرق الأقصى. في المقابل نَرى إسرائيل وبكلّ وقاحةٍ في تقرير (ماحش) الأخير تبرّأ زعرانها وأفراد الشّرطة من تهمة قتل 13 شابًا عربيًّا خرجوا للتظاهر احتجاجًا على تدنيس شارون لباحة الأقصى، والتي كانت الشّرارة التي أشعلت نار الانتفاضة عام 2000 .

منذ أكتوبر 2000، ساد في أوساط الشارع العربي الفلسطيني في الداخل اعتقادٌ مفاده أنّ خيار الحيادية من السياسة، وعدم التدخّل في الشؤون السياسية هو الأنسب، وذلك للحيلولة دون الاصطدام مع الدّولة، إلى أن جاءت مجزرة شفاعمرو الأخيرة لتكشف النّقاب عن الحقيقة وأن العرب جميعهم سواسية كأسنان المشط، مستهدفون، سياسيون كانوا أو لا، نشطاءَ في تيارات وطنية أو عملاء، وتقاعس المخابرات الإسرائيلية في قضية الإرهابي نتان زاده ونزع سلاحه قبل تنفيذه الإعدام الجماعي في شفاعمرو، لم يكن إلا بمثابة ضوءٍ أخضر يشرّع مستقبلاً القيام بمثل هذه المذابح بحق المواطنين العرب، وتقرير (ماحش) - وحدة التحقيق مع الشّرطة في أحداث هبّة القدس والأقصى، لم يكن ولن يكون إلا في سياق مواصلة الدولة العبرية ممارساتها الفاشية بحق فلسطينيي الدّاخل وشرعنة قتلهم.

في إسرائيل 2005، تنهار جميع المعادلات الفلسفيّة، ويمسي الحديث عن القيم الأخلاقية والحقوق الطبيعيّة للعرب فلسطينيي 1948 بشكلٍ جديّ خارج قاموس اللعبة الديمقراطية, ولا يخفى على أحدٍ خلوّ كتاب قوانين دولة أبناء العم سام من كلمة عرب، تمامًا كما هو الحال في الولايات المتّحدة وكيفيّة تعامل هذه الإمبراطورية المطّاطة مع سكّان الأرض الأصليين. وإسرائيل أثبتت لنفسها أولاً وللعالم ثانيًا أنها لا تستحقّ كنية دولة, وأنها بعيدة كل البعد عن هذه المرتبة التحصيليّة في سلّم كلّ شعب، فنراها بلا حدود جغرافيّة، وبلا قيم أخلاقيّة، تقتل مواطنيها، وتشرّع وصفهم بالقنابل الموقوتة والخطر الديمغرافي في أفضل الحالات وقتلهم في أسوأها، وتطحن عظام البشر كلّ يوم، وتشرّد الآلاف، وتُبقي مصير الفلسطينيين رهنًا تحت أقدام جنودها وجنازير دبّاباتها، وتضرب بعرض الحائط مواثيق الأمم المتّحدة، وتحشو أنفها في شؤون دول العالم، وكلّ ذلك يتمّ في إطار دولة ديمقراطية .

مصادر
كنعان أون لاين (الولايات المتحدة)