تعكس حادثة انتحار وزير الداخلية السوري ذروة الأزمة المتراكبة منذ احتلال العراق، وما تبعه من ضغوط وتحولات إقليمية كان أبرزها انسحاب الجيش السوري من لبنان. وهذه الأزمة في عمقها لا ترتبط بطبيعة تسارع الحدث السياسي بل بفقدان الاستراتيجية الخاصة باستحقاقات المستقبل. فسورية التي أعلنت منذ فترة طويلة عمليات إصلاح شامل لم تستطع أن تجعل من هذا البرنامج تكتيكا يواجه جملة التحديات والتبدلات التي رافقت المنطقة مع بداية الألفية الجديدة.

عملية الانتحار بذاتها تعكس نوعا من الخيبة والإخفاق وفق المؤشرات التي حملتها سواء في الظروف التي أحاطت الحادثة، أو حتى في الرسالة التي وجهها وزير الداخلية السورية قبيل الانتحار. فهذه الصورة وإن بدت "فردية" لكنها في النهاية تصب في إطار عام يؤثر على البنية السياسية السورية بكاملها، وليس فقط على السلطة أو الدولة. حيث يجد المراقب أن السياسة سورية التي قامت على امتداد ثلاث عقود بخلق تمايزها الخاص وأدوارها التي دخلت استحقاقات وتحديات كثيرة، بدأت تفقد الألق الذي رافقها منذ حرب تشرين 1973 وصولا إلى التكتيك السياسي في مفاوضات السلام، وكان التتويج الفعلي في انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان الذي اعتبر انتصارا لسورية كما هو انتصار لحزب الله.

وفق هذه الرؤية فإن العمل السياسي السوري على امتداد السنوات الماضية لم يكن شأنا منفردا، بل ترابط عضويا مع العلاقة مع لبنان، مهما كانت الملاحظات حول الوجود السوري. وهذه الزاوية تبدو مؤثرة جدا في الجيل السياسي الذي شكل هذه المرحلة، وهو اليوم يقف على مرحلة من التغير المرتبط بالوضع الدولي بنفس درجة تشابكه مع الواقع الإقليمي. ومن هذه الزاوية يمكن أن نفهم تأثير عملية الاغتيال على الوضع السوري، فهو تأثير له علاقة بالبنية السياسية العامة وليس بالصراعات الداخلية كما تورد بعض التقارير.

وإذا كانت حوادث الانتحار نادرة إن لم تكن معدومة في العالم العربي، فلأن التحول نادر والوضع السياسي في أي انتقال يأتي ليعزز السكون. فعمليات الانتحار داخل "الوسط" السياسي تعبر غالبا عن مراحل التبدل. ورغم أن سورية لا تعيش هذا التبدل العنيف لكنها بلا شك تشهد مرحلة بالغة التعقيد تشبه إلى حد كبير عمليات الانتقال الحاسمة في تاريخ الدول. فصحيح أن سورية تحافظ اليوم على استقرارها، لكن في الاستراتيجي العام فإنها تشهد استحقاقا كبيرا مهما كانت نتائج لجنة التحقيق الدولية بشأن اغتيال الحريري؛ هذا التحول يظهر عبر "نشر القلق" أو "التخويف" الذي تمارسه التصريحات السياسية إضافة لوسائل الإعلام. وحادثة الانتحار بمعناها العام تعكس الخيبة في مواجهة هذا الموضوع، كما انها تأتي لتكسر عملية "الاسترخاء" السياسي في مواجهة التحول الذي شهدناه من اغتيال الحريري.

ربما من المؤسف أن التكثيف الإعلامي حول حادثة الانتحار حاول أن يقرأ ما جرى ضمن البعد اللبناني فقط. فهذا الأمر الذي فرضته الظروف السياسي غيب الكثير من المؤشرات عن البنية السياسية السورية. كما الإعلام حاول التعامل مع الحدث بتطرف أحيانا ليرسم ملامح صراعات بينما ما حدث يعكس صورة فقط لضرورة التعامل مع الحساسية السورية بشكل جديد.

وعندما تطفو على سطح روايات كثيرة فإن المسألة تبدو وكأنها رغبة في حرف هذه الحادثة عن موقعها الحقيقي. فالرواية الرسمية والمؤشرات المرافقة لها لا تقدم إلا انتحارا لأنه من الصعب في زمن "الانكشاف" السياسي على مستوى العالم تدبير حبكة أو مؤامرة شبيهة لما حدث. والروايات التي تبالغ في التفاصيل ربما تحاول إعادة تشكيل المشهد، على الأخص عندما تقدم حالات افتراضية، مثل زيارة اللواء غازي كنعان إلى السفارة الفرنسية قبل انتحاره، فمثل هذه الروايات تعاكس طبيعة التعامل السياسي داخل سورية، إضافة لكونها تحمل افتراضا بأن الوضع السياسي محبوك مسبقا.
لا شك أن ما حدث في عملية الانتحار لن يكون شأنا عابرا، ليس في مسألة نتائجه السياسية، بل في تأثيره العام على قراءة البنية السياسية السورية الرسمية أو الموجودة خارج السلطة سواء كانت أحزاب أم تيارات.

مصادر
سورية الغد (دمشق)