موضوع الصفقة بين الولايات المتحدة وسوريا ليس جديدا. وقد لازم تاريخ العلاقات بين اميركا، القوة العظمى من ناحية، وسوريا القوة الاقليمية من ناحية اخرى. فمنذ سبعينات القرن الماضي طبعت العلاقات بين الجهتين بسلسلة من الصفقات بدأت مع اتفاق فك الاشتباك الاول عام 1974، وتطورت في شكل ملحوظ مع تقاطع المصالح الاميركية السورية في الساحة اللبنانية عام 1975، عندما بدا ان لبنان كله كان على وشك السقوط تحت سيطرة الفلسطينيين. فدخل السوريون لبنان في شكل مكشوف تحت مظلة الاميركيين، رغم احتجاجات الاتحاد السوفياتي آنذاك. ويذكر التاريخ ان النظام السوري تميز منذ ذلك الوقت باحترامه المواثيق والاتفاقات غير المكتوبة والخطوط الحمر المتفاهم عليها عبر اطراف ثالثة، وحتى مباشرة. فاحترام الرئيس حافظ الاسد القاطع للهدنة على خطوط المواجهة في الجولان مع اسرائيل التي كانت تحتل هضبة الجولان ولا تزال، اضافة الى احترامه الخطوط الحمر في لبنان التي قضت في شكل عام بعدم عبور القوات السورية خط نهر الاولي بتراجع 40 كيلومتراً عن الحدود، وعدم استخدام الطيران فوق لبنان مهما بلغت ضراوة النزاع (خرق السوريون الاتفاق مرة واحدة عام 1981 فاسقط الطيران الاسرائيلي مروحيات سورية فوق جبل صنين)، وعدم ادخال صواريخ ارض جو الاراضي اللبنانية (خرق مرة واحدة عام 1980 فكادت تؤدي الى حرب، الى ان عاد السوريون الى احترام الاتفاق بسحب الصواريخ وسميت المرحلة أزمة الصواريخ).

ويذكر التاريخ ايضاً ان الاسرائيليين عندما اجتاحوا لبنان عام 1982، وكان معلوماً وفق وعود رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن انهم لن يتجاوزوا مسافة اربعين كيلومترا، اي نهر الاولي، بما يحقق للطرفين الاسرائيلي والسوري معاً مكاسب استراتيجية ليس اقلها انهاء وجود المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني، وادخال المنسحبين من المنظمات والقوى التابعة في شكل او آخر لمنظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات تحت السيطرة الاستراتيجية الكاملة من طرف الجانب السوري الممسك ببقية لبنان بغطاء اميركي. ومعلوم ان وعود بيغن ذهبت ادراج الرياح عندما اكمل وزير دفاعه آنذاك آرييل شارون الاختراق العسكري مباشرة الى بيروت، فحصل ما شاهده اللبنانيون وما يذكره آلاف الجنود السوريين، شيء من الانسحاب الفوضوي من مناطق الجبل ومحيط بيروت بسبب مفاجأة شارون لكل من رئيس حكومته والاميركيين والسوريين وحرقه الاتفاقات غير المكتوبة. الى ان عاد الاميركيون واوقفوا الاختراق الاسرائيلي عند نقطة طريق الشام.

وقد استبسلت قطعات عسكرية سورية في بعض مناطق الجبل وسهل البقاع للدفاع عن الخطوط الدفاعية التي كادت تلتف خلف خط دمشق نفسه عند البقاع الغربي. ولا ننسى ان ما يفوق 90 طائرة مقاتلة سورية سقطت في مواجهات غير متكافئة تكنولوجياً مع الطيران الاسرائيلي.

ظلت المرحلة التي تلت الاجتياح الاسرائيلي حتى اتفاق الطائف، وقد تخللها استكمال النظام السوري تصفية منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات التي كانت ترمز الى القرار الفلسطيني الحر، فجرى اخراج عرفات للمرة الثانية من لبنان بعد بيروت على يد الاسرائيليين، من طرابلس على يد السوريين. ولن نسرد مسلسل حرب المخيمات من اجل السيطرة على الورقة الفلسطينية.

في مرحلة اتفاق الطائف اللبناني العربي الدولي، سرعان ما دفع غزو الكويت الاميركيين الى عقد صفقة مع السوريين بتسليمهم لبنان لقاء استكمال تغطية حرب تحرير الكويت بمشاركة رمزية سورية. وقد عرف الاتفاق باتفاق الاسد – بيكر (وزير خارجية الولايات المتحدة عام 1990) فتحول الحل بانهاء الحرب اللبنانية وفق اتفاق الطائف حلا سوريا وغاب العنصر اللبناني والعربي والدولي. وتفرد السوريون بلبنان بغطاء اميركي لاكثر من خمسة عشر عاما. وكانت المواجهة غير المباشرة مع اسرائيل تحت عنوان الحرب المنخفضة الوتيرة، فسادت مع تطور المعركة في الجنوب اللبناني ونجاح التحالف السوري الايراني عبر "حزب الله" بتوحيد بندقية المقاومة. ومع ان المواجهات ارتفعت وتيرتها ظلت التفاهمات السورية الاسرائيلية غير المنظورة قائمة على قاعدة ضبط المواجهة عند مستوى لا يهدد استقرار المنطقة (نشوب حرب).

وكان مفروغا منه امر الاعتراف الدولي العربي وحتى الاسرائيلي بالنفوذ السوري في لبنان. وبدا ان اي جهة لم تكن تسعى الى اعادة النظر في المعادلة التي بناها الرئيس حافظ الاسد بمزيج من السياسة والبطش والاعتماد على الوقت. وكانت القاعدة الاساسية التي ميزت سياسات حافظ الاسد هي: اولا تأمين غطاء دولي (اميركي) لكل خطوة او اختراق يحققه في لبنان او على مستوى القرار الفلسطيني. وثانيا، احترام التزاماته وتعهداته في شكل صارم وحرفي. فكان لهذه القاعدة اثرها على عواصم القرار التي لم تكن للاسد الاب مودة فقط، وانما كانت تحترم قوته واتزانه واحترامه للاتفاقات، مما منحه صفة مهمة لرجالات الدولة، وهي غير مرئية: الهيبة.

حتى العام 2004 ظل السوريون في لبنان يتمتعون بمظلة بيكر – الاسد. لماذا سقطت وكيف؟ وهل عول الرئيس الاسد الابن على تجديد الاتفاق واخطأ؟ وما الفارق بين صفقة مع الاميركيين عام 1990 وصفقة عام 2005؟

مصادر
النهار (لبنان)