"ليس غازي كنعان من صنف الرجال الذين ينتحرون"، قال مراسل وصحافي بريطاني اقام طويلا في ربوع لبنان، وتقلب بين "ويلاته" في الحقبة الكنعانية الطويلة، غداة 1982 والحملة الاسرائيلية على الدولة الفلسطينية، الى غداة الجلاء الاسرائيلي. وما كتبه روبرت فيسك، مراسل "ذي اندبندنت"، مساء 12 تشرين الأول، قبل أن يمهد جثمان السيد اللواء الركن وزير الداخلية، على ما يسميه رئيس مكتبه، جرى على ألسنة كثيرة، ومر في خواطر أكثر على الأرجح.

والذين يذكرون صور العقيد الركن – حين باشر مهمات الرصد والاستطلاع في القوات العربية السورية العاملة في لبنان، غداة الحملة التي اودت بدولة منظمات منظمة التحرير الفلسطينية ولم تخرج القوات السورية وأجهزتها إلا من بيروت وبعض الجبل الجنوبي – ورأوها من جديد على شاشات النعي والتأبين، هؤلاء ربما رأوا رجلا يافعاً على رغم بلوغه الأربعين (يومذاك)، يضج حياة وحبوراً، ويقبل على "عمله" بلبنان وفي اللبنانيين إقبال من يستشرف او يستطلع من ميدان حياته الجدية كنوزاً مطرية، واختبارات لا تحصى.

ورأوا الرجل اليافع "الأوروبي" البشرة والشعر والعينين، الزاهي ألوان القمصان "الرياضية" والبعيدة من الخاكي العسكري ومن البزات القاتمة التي لزمت خلفه ولزمته هو من غير قتام في حقبته الاخيرة، رأوه يتولى عمله، وهو يوصف بالظل ويُنسب اليه، في وضح نهار متوسطي ويكاد أن يكون صحراوياً لفرط وضوحه وضوئه وعلانيته. فبدا متحفزاً، يغلب استعجاله تشنجه، وينم اطمئنانه الى حاله باطمئنان السمكة الى مائها. وكأن الميدان اللبناني، او المسرح، أيقظ فيه رغبة محمومة في اللعب والتبديد (...).

وربما قرأ المراقب في سماء العقيد الركن، الآتي من سلاح المدفعية والساكت شأن رواة تاريخه عن سجله القتالي في حرب تشرين 1973 القريبة، ما رآه كثيرون، ويرونه (في صورة الشاعر أدونيس بساحة البرج في 1957، على سبيل المثال)، في وجوه شبان سوريين خرجوا لتوهم من بلادهم و"داخليتها" الى ما يتصور لهم رحباً (لبنانيا) فسيحا. ويدعوهم الرحب هذا الى شحذ رغباتهم واسنانهم، و"العض في لباب الفاكهة كلها، والشرب من مياه الينابيع" (على قول الفرنسي اندريه جيد في "القوت الارضي"). وقد يكون هذا بعض السبب في التباس علاقة سوريين كثر بلبنان واللبنانيين. فلبنان، اللبناني الانعزالي الطائفي (على ما ذكر أدونيس إياه قبل سنتين وخطب)، هو فرصة هؤلاء السوريين، على أصنافهم ومنازعهم، ومدرجهم الى استقبال العالم، وربما الحياة نفسها، والفعل فيه ولكنه، من وجه آخر يلازم الوجه الاول، غوايتهم، ومزين تخليهم عما يحسبونه نفسهم وهويتهم وعربتهم وعروبتهم، وموسوس هذا التخلي. وكثرتهم تتخفف من الترجح بين الفرصة وبين الغواية او الخيانة. فتتمتع بالغواية، إذا قدر لها، وتتمسك بـ"الداخلية" والهوية، وتحاول شد لبنان اليها، وتذويبه في محلولها. وتصف اللبنانيين وتنعتهم ببيع أنفسهم من الأجنبي، والاستسلام له، والانبهار بسرابه، على ما صنع الرئيس السوري، في خطبة 6 أو 7 آذار من العام الجاري، على نهج جورج قرم، الوزير الماروني السابق و"المفكر" والكاتب والاخباري (بالفرنسية، وهذا يقوي شهادته على المثال المترجح والمتنازع نفسه).

فيجني هؤلاء من لبنان خلاف ما وعدهم به. فتبدد الرغبة القوية والجامحة في متع وملذات من غير تدبير ولا "آداب" تمتع، وهذه قد يقود بعضها الى الصداقة والسكينة، على رغم صاحب "تدبير الملذات". ولم تمض اعوام قليلة على ولاية العقيد الركن حتى غشي البشرة والجبهة والنظرة سأم لبيدي (من صاحب: "ولقد سئمت من الحياة..."). ووشت هذه برتابة سلطان لا قيد عليه (إلا من فوقه). ولم يبلغ السأم مبلغ الاكتئاب الذي "رصده" ألبرت دورر، الرسام، ومسرحته الدراما المأسوية الألمانية وملأت به وجوه أمراء وحكام وولاة يتآمرون على عالم يباب تركه الأفول قاعاً صفصفاً. ولمح صلاح عبد الصبور المصري ظله الثقيل على "ذي الوجه الكئيب" الأسطوري. وعندما وقف اللواء الركن، قبل توزيره، خطيباً في حفل تسليمه مفتاح بيروت "المحروسة" (على قول عثماني تتناقله "عائلاتها" الى اليوم) و"الممتازة" (على قول فرنسي)، وكان ذلك في 2002، لم يشبه الرجل نفسه او ما كانه، بل أشبه كثرة المكتهلين الذين "جمح" زمانهم، على قول المتنبي، فلم يبق "لذيذاً خالصاً". وأبقى رماد الأم، وخلطه ربما بسمّ المتقاعد عن العمل والرغبة او بإكسير التحفز الى الاستيلاء على كرسي "يهز كأنه/ نعش يدق بجنبه مسمار"، على زعم محمد مهدي الجواهري العراقي.

ولا تزعم الملاحظة من قريب او بعيد تعليل ما صنع السيد اللواء بنفسه، من تلقائها أو جوابا عن إيعاز لا رادّ له و"الراد عليه كالراد على الله"، على قول مجتهدي الشيعة في إجازات اجتهادهم. وإن كان، والحق يقال، ما صنعه بنفسه يتصل بما صنعه بنا، نحن "رعاياه" على ما رأى إلينا طوال عقدين ورأى اليه بعضنا. فهو، منذ 1982، الآمر الناهي في ما سماه "الملف" اللبناني، وتناقلت السياسة والصحافة المحليتان الاسم المهين عنه. وأرث الأمر والنهي عن سلف مثله هو محمد غانم. وأقصي غانم عن أمرة الجهاز في أعقاب تهمته بتدبير تفجير طائرة ركاب مدنية (قبل لوكربي وصحراء التشاد بأعوام) بمطار هيثرو اللندني. وسمى التحقيق الضابط السوري الرفيع، واتهمه بالإرهاب. ومذ ذاك أدرجت تقارير وزارة الخارجية الأميركية السنوية الحكم السوري في باب الدول الراعية الإرهاب، على تفاوت كبير في مفاعيل الادراج.

وكان عُهد الى غانم برعاية أمن القوات السورية بلبنان يوم كانت المنظمات الفلسطينية المسلحة، وتحت لوائها "القوات المشتركة الفلسطينية – اللبنانية"، تقاتل الدولة اللبنانية، وشطراً من اللبنانيين، وتتوسط الجماعات اللبنانية من داخل (فتقاتل صائب سلام بابرهيم قليلات، والزعامات الأهلية السنية وغير السنية بالمجالس المحلية ومحازبيها "العقائديين" وبزعامات أهلية أقلوية)، وتتوسط بينها (فيحمي ياسر عرفات من طريق ابرهيم قليلات أرثوذكسيي المزرعة، او يأمر عرفات أبو موسى بألا يتجاوز الدامور، بعد المقتلة، الى بلدات الشوف...). وكان الحلف العروبي (اللبناني الاسلامي في معظمه ) - الفلسطيني الذي تعهدته سياسة ياسر عرفات بلبنان، بناء على اختبار تمزق العرى الفلسطينية – الاردنية (وهذه معظمها فلسطينيي المنشأ والهوى) بالاردن في 1967 – 1970، عقبة بوجه خلافة السياسة السورية المنظمات الفلسطينية على اللبنانيين، او حزبهم العروبي منهم، وبوجه اعمالهم في سياسات دمشق الاقليمية.

فلم تكد القوات السورية تتحصن بواقعها بلبنان حتى عملت على فك عرى الحلف هذا. فضيقت على الفلسطينيين المخالفين، وحاولت استمالة اللبنانيين النافذين. وسعى حزب او طرف في إبطال مزاعم خصمه في توفير الأمن والقدرة عليه. فشاعت أعمال الاغتيال الجماعي بواسطة السيارات المفخخة، والاغتيالات المواربة. وولغت الاستخبارات الاسرائيلية في الحمأة. وسميت "الحرب" هذه حروب الجبهات المنقلبة والرجراجة. وأرادت السياسة السورية، الامنية والمحلية، إضعاف الذريعة الفلسطينية الاحتماء بشرعية لبنانية، وطنية وأهلية محلية (...)

ونفخت السياسة السورية في المنازعات اللبنانية المستعرة، القديمة والجديدة والمتجددة. وكان انجازها الكبير في هذا المضمار، جر جماعات شيعية متعاظمة، في الجنوب وبيروت والبقاع، الى مقاتلة شلل او جماعات فلسطينية، تتصدرها "فتح"، ومقاتلة جماعات لبنانية تحتمي بها أبرزها الشيوعيون المحليون. فذرت حروب أهلية فرعية في اطار "الحرب الاهلية" العريضة، العروبية – اللبنانية. وتواترت اشتباكات تطورت الى معارك حملت الآلاف على النزوح والهرب او التستر. وفاقم الهرب "المشترك"، في آذار 1987، أمام القوات الاسرائيلية ضعف دالة "الفلسطينيين – اللبنانيين" ومهابتهم. فلما اجتاحت الدولة العبرية الاراضي اللبنانية كانت المنظمات الفلسطينية المسلحة خسرت "الماء" اللبناني الذي يسعها أن تسبح فيه.

وانتقل الميراث "السياسي" هذا الى غازي كنعان، وهو بلغ من النضج مرتبة متقدمة. وكان على قائد جهاز الرصد والاستطلاع التوسع في النهج المتحدر اليه من عشرة أعوام فلسطينية تامة، وقبلها من خمسة أعوام بالاردن، الى الاختيار السوري المحض، اذا جازت العبارة. فاضطلع بالامر على نحو كاد فعلاً يحقق دمج اللبنانيين في ولاية الاستيلاء الدمشقية (أو "الشامية" على قول "الحزب" الوحيد الذي سار وراء نعش كنعان). وشرط هذا الدمج هو تصديع اللبنانيين أهلاً وطوائف طبعاً، وشراذم طوائف، وشطور أحزاب وأجنحة، وبلاداً ("الجنوب" و"الضاحية" و"الغربية"...). فاستعدى الجماعات و"المتحدات" والعصبيات، قديمها ومحدثها رميمها ومن بعثها، بعضها على بعض. وهو لم يفتعل الانقسامات افتعالاً خالصاً. فلم تبقَ جماعة لم تنقسم على نفسها تدريجاً وبطيئاً، الا اذا كان انقسامها يعود على "الراعي السوري" (وهذا من أسماء السياسة السورية الحسنة) ضرراً وخسراناً.

فانقسم القوميون السوريون حزبين (مسلحين)، وانقسمت "القوات اللبنانية" حزبين قبل أن ينقسم شطرها الاكبر أحزاباً، وانقسمت الكتائب، وانقسم المسلمون السنّة، وانقسم "أهل" طرابلس، وأقام الشيعة على "ثنائية" (من الاسماء الحسنة كذلك) مركبة وعجينة وتوحدوا على "مقاومة" حي سلمهم الى "حكم لبنان"، على قول أحد معمميهم، والى التسلط على ريعه الناضب. وحاولت "ثنائية درزية شق طريقها الى العلن قبل أن توأد من غير شدة"، على قول أطباء التشريح الذين فحصوا جثمان كنعان. ولم يستقبل أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني، وهذا نزر يسير تبقى منه، بدمشق الا بعد أن انشق على نفسه. وأنشب الانقسام في الانقسامات والشطور نفسها، لم يستثنِ انقساماً او شطراً. فقام ايلي حبيقة على سمير جعجع، وقام جورج سعادة على جعجع، وفؤاد مالك على جعجع، وسجن جعجع، واغتيل حبيقة. واقتتل "حزب الله" (ومحمد حسين فضل الله) و"أمل"، وانشقت "أمل" كتلاً، وخسرت عسكرها في قتال الفلسطينيين (...)

وفي الاثناء، احتاجت ايران الخمينية الى سند عربي بوجه "قادسية" صدام حسين، وقصده القدس من طريق عبادان. فكان الاستثمار الايراني في لبنان "العربي"، على الحدود مع اسرائيل، فرصة نادرة انتهزتها السياسة السورية كلها من غير شك، أي رأسها، وأدى غازي كنعان كتابتها الموسيقية أداء بارعاً. فأرجع القوات السورية الى بيروت بعد تمهيده الطريق بواسطة اقتتال درزي – شيعي وشيعي – شيعي، وشيعي – شيوعي، وسني – شيعي، على فصول متناسلة. وبينما كان يمهد لـ"إصلاحات دستورية" في ختام 1985، فجمع أطراف "الاتفاق الثلاثي" الذي شق "القوات اللبنانية" والمسيحيين عموماً، رعى هو و"الحرس الثوري" الايراني بلورة "المقاومة الاسلامية"، قوة عسكرية وأمنية مهيمنة، وذراعاً لـ"حزب الله" المنظمة السياسية والايديولوجية والاجتماعية، ونواة طبقة حاكمة مذهبية. وسمى أحد الكتّاب السوريين النافذين، عبدالله الاحمد، "حزب الله" "سرايا غازي كنعان". فشقت المنظمة الدولة اللبنانية الآتية، وابطلت شرعيتها وتجانسها الوطنيين والداخليين المأمولين، وعزلت الشيعة وكتلتهم عن المجتمع السياسي اللبناني المزمع. واستودعت السياسة السورية، وبينها وبين الحركات الاسلامية الناشئة او القديمة عداوة وثارات لم تطوَ، استودعتها حركة اسلامية جهادية ومتصدرة هي "حزب الله". وكان الحزب مطية السياسة السورية الى المنظمات الفلسطينية الوطنية والاسلامية.

ولا شك في أن هذا كله وغيره مثله "رائع". ولكنه مرسل ولا ينتهي الى نهاية، ولا ينعقد على خاتمة او إنجاز يُبنى عليه ويستكمل. وليس البرهان على هذا أنه انهار في طرفة عين، ولم ينفع في شيء، وحسب. فهذا النهج، وهو ثمرة "عبقرية" فردية، عقيم ولا قوام له اذا لم يستمر لا الى غاية. ومن المحال أن ينشئ "نظاماً" او حياة آمنة، وصداقة وسكينة. فهو عبث كله وتسكنه تعاسة العقم السوداء، تلك التي يسكن حكاياتها "ضجيج وغضب" يصمان الآذان.

مصادر
النهار (لبنان)