هل تكفي الاجراءات الامنية والاقتصادية والمالية الاحترازية المتخذة حتى الآن لمواجهة التداعيات المحتملة لنتائج تقرير ميليس واحتوائها ام تبقى في حاجة الى خطوات سياسية تعزز الجبهة الداخلية وتحصنها وتوحد الموقف من نتائج التقرير وهي الخطوات الاقوى والانجع؟

الواقع، ان اللبنانيين وقادتهم منقسمون حيال تقرير ميليس ايا تكن نتائجه :

ففئة منهم قد ترفض نتائج التقرير اذا سَمَّتْ المتهمين بارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه وتعتبرها مسيّسة، وقد تتصدى لهذه النتائج بشتى الوسائل بحيث انها قد تبلغ حد القيام باعمال تخريب للاخلال بالامن وارباك السلطة واضعافها ونشر الفوضى التي قد تفرض استقالة الحكومة، فيصبح من الصعب، ان لم يكن من المستحيل ملاحقة واعتقال من يتهمهم تقرير ميليس بارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه او التورط فيها، وقد لا تكفي الاجراءات الامنية الاستثنائية المتخذة للحؤول دون القيام بهذه الاعمال في غياب الوفاق السياسي وفي ظل انقسام داخلي حاد، او ربما يلجأ الفريق المتضرر من تقرير ميليس الى التظاهر احتجاجا على نتائجه ورفض ما تضمنه من اتهامات والمطالبة بانتظار حكم المحكمة في هذه الجريمة سواء كانت لبنانية او دولية او مختلطة، بحيث يستمر الوضع الراهن الى ان يصدر هذا الحكم، ومع استمراره تظل البلاد تواجه حالة جمود وشلل في كل المجالات وهو ما لا تستطيع تحمل عواقبه فيما الوضع الاقتصادي هش والوضع المالي ضعيف.

وترى الفئة الاخرى ان نتائج تقرير ميليس سوف تدفعها الى تحديد المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية باعتبار انه مسؤول ولو معنويا عن اعمال فريقه الامني المتهم بالتخطيط او التدبير او التنفيذ لارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، وفي حال التوصل الى فرض هذه الاستقالة ينتقل لبنان من مرحلة الى مرحلة وتقوم عندئذ السلطة البديلة بفريق عملها الواحد والمتجانس، القادر على مواجهة التحديات والاستحقاقات المستقبلية في كل المجالات بموقف رسمي واحد، وليس كما هي الحال الآن بوجود سلطتين سلبيتين متناحرتين لا تنتجان قرارات، وينتهي مع قيام هذه السلطة البديلة ما تبقى من حكم النظام الامني اللبناني – السوري.

اما اذا جاء مضمون تقرير ميليس غامضا ولا يسمي من يتهمهم بارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه تاركا الحكم للقضاء في هذه الجريمة على ضوء نتائج تحقيقات اللجنة الدولية، فإن الفئة التي تكون قد تعرضت للاتهامات من قبل فئة اخرى مستبقة التقرير، فانها قد ترتد عليها بالهجومات السياسية وباقامة دعاوى تحصيل شرف نتيجة القدح والذم، وهو ما يزيد الشرخ والانقسام بين اللبنانيين ويحول دون النهوض بالبلاد اقتصاديا وانمائيا، وقد يعطل امكان الحصول على مساعدات وقروض لتحسين الاوضاع المالية والتوصل الى اطفاء الدين العام.

وقد تنتهي المواجهة بين اللبنانيين المنقسمين على بعضهم نتيجة تقرير ميليس بانتصار فئة على فئة وانتقام فئة من فئة، وهو ما لا يقود الحكم في البلاد الى شاطئ الامان، لان التركيبة اللبنانية الدقيقة تفرض حكم الوفاق والتوافق، وحكم العدالة الذي يولد الاعتدال.

لذلك، ترى اوساط سياسية مستقلة ان لا سبيل الى مواجهة تداعيات تقرير ميليس ايا تكن نتائجه الا بأحد امرين:

اولا: اتفاق اللبنانيين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم ومذاهبهم على القول بنتائج تقرير ميليس سواء سمى المتهمين بارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه وما يترتب على ذلك من اجراءات وتدابير، وسواء لم يسم احدا واكتفى بسرد الوقائع واقوال الشهود تاركا للقضاء ان يصدر حكمه فيها. وعندها ينبغي ان يتفق الجميع على انتظار حكم القضاء في الجريمة، وامرار المدة الباقية من ولاية الرئيس لحود ولو بحد ادنى من التفاهم والتعاون بين السلطات، حفاظا على مصالح البلاد والعباد، وتجنبا لتعريض الاوضاع الاقتصادية والمالية لأية مخاطر.

ثانيا: ان تتعاون سوريا تعاونا صادقا وامينا مع نتائج تقرير ميليس مهما تكن، وان تدعم السلطة اللبنانية في مواجهة تداعياتها من اجل المحافظة على الاستقرار العام في البلاد، فلا تدع الفئة المتحالفة معها تقوم بأي عمل سلبي ضد هذه النتائج وان يتم تسليم من يطلب التقرير تسليمهم واعتقالهم لبنانيين وسوريين تمهيدا لاحالتهم على القضاء وانتظار صدور الحكم عليهم ويترك للقضاء ان يحكم في ضوء التحقيقات التي اجرتها اللجنة الدولية وإلا تولى مجلس الامن الدولي متابعة نتائج هذه التحقيقات واتخاذ ما يلزم من قرارات.

وتجري لبلوغ هذه الغاية اتصالات عربية ودولية بهدف ضمان ألا تؤثر نتائج تقرير ميليس على الاوضاع في لبنان وسوريا وذلك بتعامل كل الاطراف المعنيين من كلا البلدين تعاملا عاقلا وحكيما مع هذه النتائج والمساعدة على معرفة الحقيقة واعلانها في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، من دون العمل على اخفائها خوفا منها، لان اخفاء الحقيقة قد يكون اشد خطرا على الجميع من كشفها.

اضف، ان هذه الاتصالات ترمي الى احتواء تداعيات تقرير ميليس، وتجنب اي ازمة او توتر او تصادم بين اي فئة، واقتناع نظام الحكم في سوريا بأن يغير سلوكه لتجنب مواجهة خطر تغييره وهو ما ترفضه دول عربية واوروبية. لكن هذه الدول تطالب سوريا في الوقت نفسه بمنع حصول هذا التغيير، بالتعاون بشكل ايجابي مع نتائج تقرير ميليس، وعدم تسييسها بهدف الحؤول دون معرفة مرتكبي جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، لان ليس سوى هذا التعاون ما ينقذ الوضع في سوريا ويؤمن الاستقرار العام في لبنان، ويفتح الباب لحوار هادئ وجدي ومجد لتنفيذ ما تبقى من القرار 1559 وما يقضي به القرار 1614 من اجل توفير امن ثابت ودائم في الجنوب اللبناني، خصوصا ان الوضع في لبنان اوشك ان يكون من كل نواحيه، ولم يعد يقتصر الاهتمام على الحدود مع اسرائيل، بل يشمل الوضع الداخلي اللبناني من جوانبه الامنية والسياسية والاقتصادية، وان لسوريا مصلحة في ان تفهم وتتفهم ذلك وان تظهر للجميع انها لا تخاف معرفة الحقيقة، وتقلع عن السير في الاتجاه المعاكس.

مصادر
النهار (لبنان)