تقف المنطقة بأسرها هذه الأيام على «كف عفريت» كما يقول المثل، وعلى حافة هاوية سحيقة في انتظار تقرير مصير كثير من الأمور والأوضاع كما يدل الواقع الراهن.

فلبنان وسورية يعيشان على نار الانتظار والترقب لمعرفة مضمون تقرير لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي ديتليف ميليس ومدى كشفه عن جوانب الحقيقة الكامنة وراء اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتوجيهه أصابع الاتهام للضالعين في هذه الجريمة التي كان لها وقع الزلزال في لبنان وسورية والمنطقة.

الوضع برمته تحول الى فيلم من أفلام الرعب والاثارة، ومن دراما مأسوية الى تراجيديا مؤلمة بعد انتحار وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان وما سينجم عنه من نتائج بصفته أحد الشهود. ونتائج التحقيق سلباً كانت أم إيجاباً لن تقتصر على كشف الحقيقة أو تعميم غموضها بل ستحدد المستقبل والمصير ليس في سورية ولبنان فحسب بل في المنطقة بأسرها.

وإذا كانت هذه المعضلة سيحسم أمرها خلال الأيام القليلة المقبلة فإن معضلات أخرى تقض مضاجع العرب هذه الايام في العراق حيث تدور التساؤلات حول مصيره ومستقبله بعد اجراء الاستفتاء على الدستور وهل سيتجه نحو تكريس الانفصال والتقسيم وحالات الشذوذ والانحلال أم الى انقاذ وحدة العراق وإعادة الأمل لأهله بإشراك العرب السنّة في العملية السياسية وتقرير المصير واستعادة حقوقهم السليبة.

والأمر نفسه ينطبق على فلسطين بعد الانسحاب من غزة وسط تساؤلات عن المستقبل والمصير في ضوء عاملين ضاغطين: يتمثل الأول في الخطط والنوايا الشارونية الخبيثة وموقف الولايات المتحدة منها والخطوات المطلوبة لنزع فتيل الانفجار في حال لم يستكمل انسحاب غزة بآخر من الضفة الغربية وفتح الطرقات أمام قيام دولة فلسطينية مستقلة. أما العامل الثالث فيتركز على الخوف العربي من نجاح مخطط اسرائيل في إثارة الفتن بين أبناء الشعب الفلسطيني وتوريطه في حرب أهلية تدق المسمار الأخير في نعش الأمل بالحاضر والمستقبل والمصير.

وهكذا يبدو كل شيء في المنطقة وكأنه يدور في عالم المجهول وأن مستقبلها صار حكراً على عالم التنجيم والمنجمين بعد أن شهدت تنافساً محموماً بين فئتين طارئتين من النجوم الجدد الذين غزوا بيوتنا وعقولنا وديارنا: المحللون السياسيون وقد فاق عددهم الآلاف ولا أدري من أين أتوا أو كيف يتم تكديسهم واكتشافهم مع المنجمين والمنجمات، وقد اكتشفنا أخيراً أنهم يملأون ساحاتنا وشاشاتنا نبوءات وخرافات وتكهنات ما أنزل الله بها من سلطان.

وقد شجعت الفضائيات المتنافسة هذه الظاهرة المرضية باعتماد الاثارة لسد الفراغ والتعويض عن الخواء الثقافة والفكري الذي يضرب مجتمعاتنا وجذب أكبر قدر من المتلقين المخدرين والخاضعين لسطوة «الريموت كونترول» وسيطرته التامة على ممارساتهم وخياراتهم المحدودة. المهم فقط هو تحقيق الربح المادي للضيف والمضيف.

والمؤسف ان هذه الانحرافات باتت تدر أرباحاً طائلة على ممارسيها وتحولت الى تجارة تستخدم كل الوسائل لنهب أموال المتلقين من بينها الاتصالات الهاتفية الباهظة الكلفة والكتب والمجلات المزخرفة التي يتفاخر أصحابها بأنها الأكثر مبيعاً والأوسع رواجاً وانتشاراً من أي كتاب سياسي أو فكري أو ثقافي.

ولو اقتصر الأمر على مجالات التسلية والترفيه لهان الأمر ولكن الكل ينظر ويتكهن ويتنبأ ويحلل ويتوقع ويجزم بأن مستقبل المنطقة بعد سنة، أو بعد عشر سنوات وحتى بعد 50 عاماً، سيكون كذا وكذا وانها ستشهد أحداثاً وتطورات محددة، أو ان الوضع في هذا البلد أو ذاك سيكون على شكل ما. وزاد في الطين بلة سيل المؤتمرات والندوات والملتقيات الذي هبط علينا أخيراً داخل المنطقة وخارجها لمناقشة مستقبل المنطقة في العام المقبل أو في العام 2020 أو بعد 100 عام لا فارق بين عربي وأجنبي من حيث التحليل والتدجيل.

وأعتقد جازماً بأن ما من أحد على وجه الكرة الأرضية، في المنطقة والعالم يملك القدرة على معرفة حقيقة ما سيجري غداً وليس بعد عام أو بعد شهر أو بعد يوم...فقد كذب المنجمون ولو صدقوا.. وأخطأ المحللون ولو أصابوا... فكل شيء في منطقتنا يعيش في حالة فوضى وضياع ويعاني من فردية القرار ورسم المصير وغياب التخطيط والاستراتيجية والاعتماد على شخصانية «شيخ الطريقة» واسلوبه ومزاجه وإمساكه بمفاتيح السلطة والمال والأمن فإذا غاب حلّ الويل والثبور وعظائم الأمور وضاع الناس في «شربة ماء». فأي حدث يقلب الأمور رأساً على عقب، وأي تغيير في «الشخص» ينسف السياسات والقرارات والتحالفات وأية قشة تقصم رأس البعير... ورأس الشعوب!

في الغرب ومعظم دول العالم الأول... وحتى الثاني... تستطيع أن تحدد بوضوح مستقبل البلاد والعباد لفترة مقبلة لأن الأسس متينة والمؤسسات قائمة تعمل بانتظام مهما تغيرت الأحوال. يذهب رئيس ويأتي رئيس وتبقى الاستراتيجية العامة للدولة سليمة لا تغيير فيها... قد تتغير الأساليب والوسائل وتتطبع على شكل صاحبها ولكن الأهداف لا تمس ومصالح الوطن والمواطن تتكرس باستمرار بغض النظر عن الحزب الحاكم أو الرئيس المقبل. وحتى في إسرائيل التي زرعت في خاصرة المنطقة وتطبعت بأمراض التغيير المتواصل لا نجد أي فارق يذكر بين ما يسمى بالصقور والحمائم أو بين الليكود والعمل. ترحل حكومة وتأتي حكومة أخرى تواصل العمل بالسياسة العامة منذ عام 1948 حتى يومنا هذا وهي سياسة التهويد وتكريس بنيان الاستيطان الاستعماري وقضم المزيد من الأراضي العربية المحتلة وكسب المزيد من الشرعية والقوة لبنى الدولة.

أما في ديارنا العامرة فالأمر مختلف تماماً: لا مؤسسات ولا استراتيجية ولا تصور واضحاً للمستقبل القريب والبعيد إلا في عالم التنجيم. فالفرد وحده، كما جرى في العراق المنكوب، يأخذ قرار الحرب عندما يشاء وقرار السلم متى سمح مزاجه ونزل عليه الوحي.

ينفق البلايين بجرة قلم ويستدين البلايين بطرفة عين بلا حسيب ولا رقيب ولا حساب للأجيال الصاعدة ولا لمستقبل الأوطان ومصالح الناس «الطيبين»!

فإذا غاب هذا الفرد أو رحل سقط البنيان على رؤوس الجميع وكأنه من قصور الملح في الأساطير أو من بناء كرتوني يتداعى عند هبوب الرياح وتضيع في مهبها مصالح البلاد والعباد ويعم القلق والخوف من فوضى أو من حرب أهلية تخرق البلاد وتقسمها وفي أحسن الأحوال يتم حدوث تغيير شامل في المواقف وانقلاب في السياسات والتحالفات والمواقف والقرارات كأن الخلف يريد أن يمحو آثار السلف ويشوه صورته ويعزل رجاله ويدفع الناس لشتمه وانتقاده ومحوه من الذاكرة.

أما عن الجماهير فحدث عنها ولا حرج بعد أن تم تدجينها وتخويفها وابتزازها وحصر كل اهتماماتها بلقمة العيش والقبول بالواقع على علاته والرضا بالتنقل «من حيط الى حيط ويا رب السترة» كما يقول المثل الشعبي العربي. هذا عدا عن السير وراء الغرائز وترديد أناشيد مدائح السلطان وبناء الأصنام بحسب وصف معبّر للسفير الشاعر عبدالعزيز خوجة قال فيه في قصيدة جميلة:

لا بد لنا من رمز أو عنوان/ حتى لو سقط الصنم/ لا بد لنا من صنم آخر ينتقم/ إن الوثنية في دمنا/ صنم يتبعه صنم/ نصنع آلهة نعبدها/ تقتلنا نرضى نبتسم...

لكل هذه الأسباب نكرر ان التنبؤ بالمستقبل أو تحليل الأوضاع في منطقتنا أصبح من ضرب المستحيل ولا خلاص من هذا الواقع الشاذ إلا بحدوث تغيير جذري وشامل في الأسلوب والعقلية والممارسة وفق أسس سليمة وواضحة معتمدة في كل الدول المتقدمة ومنها:

- قيام المؤسسات وتعزيز دورها في مجالات العمل العام كافة.

- بناء أسس المجتمع المدني السليم وتكريس دور الهيئات والجمعيات والنقابات.

- احترام الدساتير والقوانين وتكريس مبدأ سيادة القانون وفق أسس العدالة والمساواة.

- ضرب أوكار الفساد وقطع دابره ووضع قوانين صارمة لمحاسبة الفاسدين والمفسدين.

- تعزيز دور الجماهير وتوعيتها ورفع سيف التسلط والرعب عن رقابها حتى تثبت أنها بلغت سن الرشد لتختار وتقرر وتشارك وتتجنب الوقوع في فخ الإغراءات والإثارة والانجرار وراء الشعارات وممارسات الرعاع الذين تصدروا وساروا في شوارع مدننا.

- إطلاق الحريات المسؤولة في الحياة العامة وفي قطاع الإعلام بشكل خاص مع وضع ضوابط وقوانين تمنع الانحرافات وتحد من أساليب التهييج والإثارة والمغالاة.

وعندما تتخذ مثل هذه الخطوات يمكن الحديث عن الممارسة الديموقراطية وزوال أسباب العنف والتطرف وحملات التحريض وإثارة الفتن والشروع في الانتخابات والعمل السياسي السليم، لأن غياب أي عنصر من هذه العناصر الأساسية لا بد من أن يفرغ الحياة الديموقراطية من معانيها ويدخل البلاد في حالة تخبط واختلال الموازين كما حدث في تجارب عدة مرت بها بعض الدول.

كما ان القفزات الاعتباطية وسياسة حرق المراحل تعطي مفاعيل عكسية تعيد البلاد الى الوراء.

وبالطبع فإنه عندما تتوافر كل هذه العوامل وتنفذ هذه الخطوات (إذا كانت النوايا سليمة والإرادة صادقة والعزيمة جدية) فإنه يمكن الانتقال الى وضع الاستراتيجية العامة ورسم السياسة المستقبلية ومن ثم يمكن تحديد ملامح المستقبل في أية دولة عربية من دون الحاجة للاستعانة بجيوش المحللين وجحافل المنجمين.

وقبل كل شيء لا يجوز لنا أن نغفل حقائق مهمة وعوامل رئيسة أسهمت في تكريس حالات التخلف والضياع، ولا يمكن تصور تحقيق أي إصلاح أو تقدم في المنطقة من دون زوالها وعلى رأسها تداعيات الأوضاع في العراق وعدم إيجاد حل عادل وشامل لأزمة الشرق الأوسط واستمرار القهر الاسرائيلي للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية قاطبة ومعها تزايد التدخلات الأجنبية والمطامع التي تقف وراءها وقضايا أخرى مثل العولمة والهوة القائمة بين العرب... والآخر.

ولا بد أيضاً من حل المشكلات الاقتصادية والأزمات المستعصية بمبادرات ذاتية ومساهمات دولية فاعلة خاصة بالنسبة الى الدول الكبرى التي أسهمت في شكل أو آخر في التسبب بها أو عدم إيجاد حلول لها.

وفوق كل هذا يجب علينا، عندما نتحدث عن المستقبل، من ربط الماضي بالحاضر والمستقبل والاستفادة من الدروس والعبر. فمن لا ماض له لا حاضر له ولا مستقبل، ومن لا يأخذ العبر من مسيرة التاريخ ومحطاته ودروسه لا يستطيع البناء على أية سياسة يتخذها أو أي موقف يتبناه. ومن لا يفهم كل ذلك لا يستطيع التحليل ولا التكهن ولا التنبؤ، فكل تاريخنا دروس وعبر ومحطات فاصلة ولكننا كنا دائماً نتغافل عنها ونسهم في قطع حلقات من هذه السلسلة الطويلة المتماسكة المترابطة التي تعبر عن الاستمرارية.

وبالطبع فإن هذا لا يعني ان علينا أن نقع أسرى في حبائل الماضي وعقده، أو ان نوقف عجلة التاريخ ومعها ضرورات التطوير والتحديث والتغيير والمستمر بل علينا ان ننطلق الى الأمام لمواكبة روح العصر وتأمين الاستمرارية على أساس مبدأ الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.

ومن يبرع في فك ألغاز هذه المعادلة الصعبة ويتفهم أبعادها وأسرارها يستطيع أن يردد معنا أن التنبؤ بما سيحدث غداً في منطقتنا المضطربة وكأنها تقف باستمرار على فوهة بركان يدخل في خانة «سابع المستحيلات» وكذب المنجمون ولو صدقوا... وخاب المحللون ولو أصابوا؟!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)