تحبه أو لا تحبه، فقد حول حافظ الأسد سورية إلى لاعب اقليمي له بعد دولي، بعدما كانت مجرد أداة في لعبة الأمم، لعبة الصراع على الفوز بقلب فتاة استهوت الجميع. في الصراع بين الانجليز والأميركيين، بين الأميركيين والسوفييت، بين المصريين والهاشميين والسعوديين، فاز عبد الناصر بعقد الزواج. كان زواج المتعة قصيرا. وكان الطلاق كارثيا.

خرجت سورية من «بيت الجيران» ودخلت «بيت أبيها». ثلاثون سنة في طوق الوصاية الأبوية. حافظ الأب على شرف البنت، لكن بلا تنفس، بلا كبرياء. لا حرية. لا وحدة. انما اشتراكية كوسا محشي تلتهمها النخبة الحاكمة وشركاؤها من أهل التجارة. وظل الشعب كالأيتام على مائدة اللئام.

سخروا من ذكائه. كانوا يسكتونه عندما يسترسل في أحاديثه التحليلية الطويلة. أثبت أنه أكثر واقعية. وضع شركاءه المتشددين في اللجنة العسكرية والحزب في الحبس. ماتوا في سجنه، لكنه تحمل هو عبء هزيمتهم الكارثية في الحرب. ثم ترك العبء الثقيل لابنه، فلم يرغب في أن يرى علم اسرائيل ينتقل من الجولان الى سفارة لها في دمشق.

في لعبة الأمم، لعب حافظ الأسد على حافة الهاوية: مواجهة علنية وإعلامية صاخبة مع اميركا. مهاودة في غرف الديبلوماسية. مهارة في استغلال الحرب الباردة. محالفة روسيا من دون محاربة أميركا. اكتشافُ ايران ضد صدام من دون إزعاج لمصر والسعودية. دخول لبنان كشرطي واستخدامه «كارتا» لصالح سورية في اللعبة، ولاستنزاف اسرائيل، من دون تحريك جبهة الجولان. في البيت، تفردٌ مطلق بالسلطة والسياسة، اعتماد الفئة في الجيش، وإشراك الطوائف في الوزارة. حرب بلا هوادة على الإخوان السوريين، ومظلة وارفة الظلال فوق «إخوانهم» الفلسطينيين (حماس).

حافظ الأسد مزيجٌ من تناقضات المصادفة والظروف والآيديولوجيا لخدمة لاعب مؤثر ونافذ. قومي في الفكر. فئوي في المصلحة. حافظٌ للأمن والاستقرار في البيت، ومحافظ على السلام في لبنان والمنطقة. ملتزم بهدنة الجولان. وفيٌّ للشركاء والمتعاونين والحلفاء. اغراء وملاحقة للشركاء والمتعاونين والحلفاء. تصفية بلا رحمة لكل من يصبح بديلا. شبكة طرق تسهل حركة الشرطة والجيوش. سجون أوسع من فنادق السياحة لاستقبال النزلاء.

بعد رحيل الأب، اختلت بتغير الظروف هذه المعادلات المتناقضة التي لم تجد منطقها إلا في أحاديث الأب الطويلة مع كبار الزوار لفلسفة الدور. الابن ورث تركة ثقيلة لم يكن له دور في مراكمتها، ولم يكن راغبا أصلا في وراثتها. لكن إذا كان الأب أحسن من نظامه، فالابن أفضل من أخيه «الشهيد» الذي كان يملك بسالة جيله في الإقبال على الحياة، وضراوة الأب المتقشف.

في استفراد أميركا بالعالم بعد غيبوبة روسيا، خسرت سورية دور اللاعب الذي يعتمد على هامش المناورة بين الأقطاب. أميركا التي أدماها «نصرها» في العراق وجرحها في صميم قلبها الرأسمالي، تشير بإصبع الاتهام الى الشاهد السوري الفضولي الشامت. كلما ازداد الوجع الأميركي في العراق، ازداد الضغط على سورية.

مقتل الحريري وفر «قميص عثمان» لأميركا في ملاحقة نظام بشار. استصدرت أميركا مع فرنسا أمرا من مجلس الأمن بالخروج من لبنان. سحبت أميركا بعد 24 ساعة من اغتيال الحريري سفيرتها مارغريت سكوبي من دمشق. تعطلت لغة الكلام. غدت أميركا على الحدود «جارة الوادي» التي لا تدري ما طيب العناق على الهوى، إلا اذا ترفق ساعدها وطوى سورية، على رأي شوقي.

نفذ بشار قرار الخروج من لبنان. كان الانسحاب هرولة مهينة لتاريخ سوري في الحفاظ على الأمن والسلام في لبنان. وكان هناك تعاون مخابراتي مع أميركا في محاربة «الإرهاب» لكن كل ذلك لم يكن كافيا طالما ان التسلل إلى العراق مستمر، الى درجة تسريب معلومات «ضاغطة» على أعصاب نظام بشار إلى «نيويورك تايمز»، حول احتمال القيام بـ «عمليات قذرة» داخل سورية، وحول تداول أفكار في البيت الأبيض عن تغيير في سورية يزيح بشار.

هل امتدت يد أميركا السرية الى داخل النظام لتحريك بعضه ضد بعضه؟ هل ذهب اللواء غازي كنعان ضحية الاشتباه به في «الخيانة»؟

أقول هنا إن غازي كنعان من «آل البيت». هو من الفئة الاجتماعية الحاكمة. ابنته زوجة لأحد أنجال جميل الأسد الذي رحل قبل سنوات من رحيل شقيقه حافظ. غازي خريج كلية الآداب بجامعة دمشق. لم يكن هاويا للجندية. خدمته العسكرية في الستينات أبقته في الجيش للحاجة إليه كابن للحزب والطائفة. خدم في سلاح المدفعية. صمته وانطوائيته وانضباطه الصارم كلها رشحته للانتقال إلى المؤسسة المخابراتية. كان كنعان أنموذجا للضابط المخابراتي والسياسي المحترف، الى درجة أنه أصبح وكيل حافظ الأسد وموضع ثقته المطلقة في إدارة لبنان من عاصمته المخابراتية في «مجدل عنجر».

تعرض غازي كنعان لمحاولتي اغتيال فاشلتين في لبنان الثمانينات. كان الرجل دمثا بقدر ما كان صارما، بقدر ما أتقن فن «الحرتقة» السياسية، وتفوق بها على محترفيها اللبنانيين. في التمهيد لابنه قبل الرحيل، أقصى حافظ «ديناصورات» النظام العسكرية والمخابراتية، لكنه أبقى على غازي في لبنان. في الضغط الدولي واللبناني، رغب بشار في التخفيف من وطأة الذراع السورية الثقيلة في لبنان. كان سحب غازي كنعان من هناك بمثابة خسارة للنظام، غير أن الراحة النفسية التي شعر بها اللبنانيون تبددت سريعا بإحلال «أمراء» للمخابرات أقل طهرا منه، وأقل كفاءة.

في عجزه عن إصلاح نظامه، يبقى بشار للغرب لغزا. يتمتع الرجل في الداخل بقدر من الشعبية والرضا، للتصور بأنه يقف في وجه مخطط أميركا واسرائيل لتجريد العرب من أي سلاح سياسي أو عسكري في مواجهة التفوق الاسرائيلي. لكن الابن غير الأب. فهو أسير مراكز القوى المتناحرة داخل نظامه. لا شك أن كنعان كان أحد كبار المتناحرين، وفي مقدمتهم اللواء آصف شوكت صهر النظام. على أية حال، فالانتحار أو النحر ليس بغريب عن المؤسسة المخابراتية السورية. قبيل وصول الأسد الى السلطة في عام 1970، انتحر أو نُحر عبد الكريم الجندي رجل الأجهزة المخيف في عصر صلاح جديد.

سواء نُحر أو انتحر، فغياب كنعان دليل على مدى توتر أعصاب نظام خسر دوره كلاعب في المنطقة. توطيد علاقته مع ايران وحزب الله أكثر مما كانت في زمن الأب، يثير قلق العرب. فترت العلاقة بعد الحريري مع السعودية ومصر، لكن البلدين يخشيان على سورية من الاختراق الإيراني للنظام، وبسبب حركات التشييع المحمومة في الحوزات، بقدر ما يخشيان من مغامرة بوشية طائشة تجعل من سورية عراقاً آخر.

من قال إن السوريين غير العراقيين؟! الأسلحة متوفرة في أيدي جميع الفئات. إذا انهار الجيش كما حدث في العراق، فسوف تنتقل أسلحته الى أيدي ميليشيات طائفية تحمي نفسها وتقتتل مع غيرها بها. النفوس مشبعة بالرغبة في الانتقام من أخطاء وكوارث ومجازر وتصفيات في كارثية ماضٍ ستاليني ما لبث ربيعه، بعد الرحيل، أن اختنق بدخان الألغاز والملابسات. فقد انتقل النظام من الهجوم إلى الدفاع، ومن الدفاع إلى خوض معركة البقاء.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)