يعترض اصدقاء لنا نجل ونحترم كلما اشرنا في هذه الزاوية الى مسؤولية اللبنانيين عن المآسي التي حلت ببلادهم، وخصوصا منذ بدء الحروب فيها عام 1975. ويعترفون في الوقت نفسه باننا لم نتوقف يوما عن تحميل سوريا مسؤولية اساسية عن المآسي نفسها حتى يوم كانت في اوج قوتها اللبنانية فضلا عن الاقليمية والدولية، ويعتبرون ان "المزاوجة" الدائمة بين المسؤوليتين كانت مقصودة دائما ولاسباب عدة ابرزها اثنان او واحد منهما. الاول، حماية الذات او بالاحرى "حماية الرأس" كما يقال من الغضب السوري فيما لو ركزنا فقط على سلبيات دوره وممارساته في لبنان، وهي كثيرة. والثاني، هو تخفيف السلبيات السورية من طريق ابراز السلبيات اللبنانية لاعتبارات سياسية متنوعة. ويخلص هؤلاء الاصدقاء الى ان المساواة بين لبنان وسوريا في مجال المسؤولية عمّا حل بلبنان منذ التدخل السوري فيه ثم منذ الدخول السوري الرسمي العسكري والسياسي اليه وصولا الى ادارته على نحو تام مباشرة وعبر "حلفاء" ينفذون التعليمات التي يتلقون - يخلصون الى ان هذه المساواة هي نوع من جلد الذات الذي لا مبرر له ونوع من الإختباء وراء الاصبع كما يقال.

هل الاعتراض المذكور اعلاه في محله؟

نحن لا نشكك هنا في محبة هؤلاء الاصدقاء وحسن نياتهم. لكننا نقول بكل صراحة ووضوح ان اعتراضهم في غير محله وموقعه. ففي "هذه الزاوية" نشرت انتقادات واسعة للنظام السوري سواء يوم كان في عز قوته في عهد الرئيس الراحل حافظ الاسد، او عندما بدأت تظهر عليه بعض علامات الوهن بعد قليل من بداية العهد الحالي، سواء كان سببها الضغوط الاجنبية وتبدّل الموقف الدولي والاقليمي والعربي من سوريا، او ارتكابه اخطاء جسيمة في لبنان وخارجه وافتقاده حس التوقيت وعجزه عن التكيف مع الاوضاع الدولية المتفجرة لاسباب موضوعية معظمها داخلي. وقلنا اكثر من مرة ان ما تريده سوريا من لبنان كان هدفا من اثنين: الاول، تثبيت ادارتها له ، بل حكمها له مباشرة وعبر "الحلفاء" من قياداته والزعامات بعد اقناع المجتمع الدولي بانه ساحة خلفية لها او مدى حيوي لها ممنوع على غيرها التعاطي معه او التدخل فيه. والثاني، تحوله قانونا جزءا من سوريا في حال سمحت الاوضاع الاقليمية والدولية بذلك. واشرنا امس الى ان ما طبقه ممثلا سوريا في لبنان الراحل اللواء غازي كنعان على مدى 20 سنة وخلفه العميد رستم غزالي، انما كان سياسة سورية عامة او استراتيجيا واضحة ومحددة، ولا يحتاج اللبنانيون الى مزيد من الشرح ليعرفوا مضمون هذه الاستراتيجيا التي كان فيها شيء مفيد هو مساعدة لبنان على ازالة الاحتلال الاسرائيلي، واشياء سلبية ومؤذية مثل عدم مساعدة اللبنانيين على بناء دولة الوفاق الوطني والاستقلال والسيادة والعروبة المنفتحة والتساهل في الفساد والافساد، ربما لأن ذلك يساعد على تنفيذ الاستراتيجيا المذكورة.

لكننا اظهرنا ايضا مسؤولية اللبنانيين عما اصاب بلادهم في العهد السوري وقبله، وحذّرنا من الذي قد يصيبه بعد انهاء هذا العهد. و هذه مسؤولية ثابتة لا ينكرها الا المكابرون. والاشارة اليها لا ترمي الى تصنّع الموضوعية كما يعتقد البعض او الى مداراة "خفافيش" الليل والنهار كما يعتقد البعض الآخر. ولا ترمي ايضا الى حصر المسؤولية بزعامات وقيادات لا تهتم الا لمصالحها ومكاسبها ومفاسدها، وإن على حساب الوطن. بل هي ترمي الى دعوة الناس الى مراجعة الماضي، قديمه والقريب، والاتعاظ منه تلافيا لتكراره لانه "ما كل مرة تسلم الجرة" ، ولان تلاقي المصالح الدولية والاقليمية والعربية الذي هو حول لبنان اليوم قد يكون مستقبلا حول الطامعين به والاكثر قدرة منه على العطاء على موائد الصفقات السياسية الكبرى. وهذه الدعوة لا تنبع من فراغ. فاللبنانيون لم يتعلموا من "حوادث" او ثورة 1958، كما لم يتعلموا من عدم الاستقرار الذي بدأ عام 1969 واوصل الى حرب 1975 والحروب التي اعقبتها. بل لم يتعلموا من الحروب الاخيرة رغم انها قضت او كادت ان تقضي على لبنان. ولم يتعلموا كذلك من عهد الادارة السورية للبنان بعد الحرب. فقد ظلوا قبائل وطوائف ومذاهب، وبقي انتماؤهم الاساسي لها وليس للوطن والدولة. ولا يمكن تبرير ذلك بالذعر الذي انتاب المسيحيين قبل 1975 وبالذعر الذي ينتاب مسلمين الآن، ولا بالذعر الذي انتاب مسلمين آخرين في العهد السوري للبنان. ذلك ان احدا من داخل او من خارج لم يسع الى تبديد هذا الذعر الامر الذي ابقى عيون "الشعوب" اللبنانية شاخصة الى الخارج، اي خارج، بغية الاستعانة به في حروبها العبثية.

واظهار هذه المسؤولية اللبنانية لا يقلل المسؤولية السورية، وعلى العكس من ذلك فانه يضاعفها كون سوريا شقيقا اكبر وكون دخولها لبنان وتعاطيه معه كان انطلاقا من عقيدة ومبادىء ومواقف لم تطبق او بالاحرى لم تحترم.

اما اذا كان المعترضون، وبعضهم اصدقاء، ينطلقون من رغبة في تصفية الحساب مع سوريا او مع نظامها بعد توافر ظروف ملائمة دولية وداخلية للتصفية، فاننا نقول لهم ان هذه الرغبة ليست في مصلحة لبنان ايا يكن النظام الحاكم في سوريا. كما ان اي رغبة لبنانية في استعمال لبنان، وان قضى ذلك عليه لانقاذ وضع سوري ما، ليست في مصلحة سوريا ولا في مصلحة وضع كهذا. فالمشكلات مع سوريا مزمنة وليست وليدة الساعة. كانت موجودة بعد الاستقلال وقبل الحروب، وبقيت بعدها، وستستمر ما لم يتوحد اللبنانيون حول مفهوم وطني وعربي للبنان يختلف عن المفاهيم السائدة في العالم العربي الذي لا احترام فيه للوطنيات والحريات والديموقراطية وحقوق الانسان ولا حتى للفكرة القومية الاصيلة. وحدها هذه الوحدة تصنع وطنا، وسيبقى "الموقف هذا النهار" مركّزا عليها وإن اعتبر تركيزه "جلداً للذات" لان هدفه المحافظة على هذه الذات وليس تدميرها.

مصادر
النهار (لبنان)