تعددت الآراء وتداخلت التحليلات السياسية العربية والأجنبية على مدى الأسبوع المنصرم حول انتحار وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان، الرجل القوي كما عرف عنه ليس في هيكل القيادة السورية فحسب وإنما الى عهد قريب في صياغة هياكل الدولة اللبنانية وسلطاتها الفاعلة وعلى رأسها مجلس النواب هناك، حيث كان الرجل وباعتراف الجميع هو الحاكم الفعلي للبنان على مدى عقدين من الزمان، كان خلالهما الأكثر امساكا بخيوط وتعقيدات الشأن اللبناني، وربما الى حد كبير طرفا فاعلا فيما جرى في العراق قبيل مصرعه في مكتبه الأسبوع الماضي.

وعلى الرغم من النغمة الانفعالية التي تميزت بها تصريحات المسؤولين السوريين في ردهم على اختفاء كنعان للأبد من المشهد السياسي، والتي كان أبرزها تصريح وزير الخارجية فاروق الشرع والذي اتهم وسائل الإعلام اللبنانية صراحة بدفعه الى الإقدام على ما اصطلح على تسميته رسميا في سوريا بالانتحار برصاصة في الفم، فإن ردّات فعل الجميع في العالم العربي والمتابعين للشأن السوري واللبناني دون استثناء تقريبا كانت قد ربطت ما جرى بالتحقيق الذي يجريه المحقق ديتليف ميليس في قضية اغتيال الحريري.

الكثيرون أعطوا لأنفسهم حق تحليل ما أعلنه كنعان قبيل انتحاره بساعات محدودة الى محطة صوت لبنان، وذكر فيه أن هذا آخر تصريح ممكن أن يعطيه، ولكن اللافت هنا أن الاهتمام بهذا الحدث ربما كان مبررا الى حد بعيد كنتيجة حتمية لترقب اللبنانيين والسوريين ومعهم العرب والعالم للتقرير الذي حدد له الجمعة المقبل كموعد لتسليمه ومن الممكن تمديده حتى الخامس عشر من ديسمبر/ كانون الأول المقبل اذا لم تستكمل التحقيقات، وهو التقرير الذي تنتظره واشنطن كما ينتظره معها العالم بأسره، حيث من المنتظر أن تبني عليه واشنطن توجهاتها وسياساتها المقبلة تجاه التعامل مع النظام السوري الذي هو من دون شك هدف قريب ومعلن الى جانب كل من حزب الله وايران.

إلا أن قضية اغتيال كنعان يجب أن تؤخذ في اطارها الأشمل كما اعتقد، وليس من المفيد في شيء أن يقال عرضا إن الرجل هو آخر من يفكر في الإقدام على الانتحار أو انه قد أصيب بالامتهان في كرامته أو أن مرد ذلك هو حالة الفشل وعدم التقدير اللتين أحس بهما جراء نسيان ما قام به من دور في بعض القضايا على الساحة اللبنانية. كل ذلك وأكثر منه قد قيل ونستطيع أن نجزم بأن المسألة تتجاوز كل ذلك نظرا لأن حسابات المرحلة المقبلة واستحقاقاتها لن توفر أحدا بكل تأكيد سواء جاء تقرير ميليس منصفا أم منحازا فالمسألة برمتها ستتجاوز مجرد التحقيق في حادثة اغتيال رفيق الحريري ورفع الملف بما فيه الى الأمين العام للأمم المتحدة. وعليه فإننا نستطيع فهم مغزى الانفعال السوري والذي ربما يكون منبعه هو الاحساس الطاغي لدى أركان النظام السوري بأن المرحلة تحتاج لأكثر من انتظار نتائج التحقيق والتي هي ليست بخافية على احد، وهذا بدوره يقلص من قدرة النظام السوري على الافلات أو لنقل المراوغة من تهمة جاهزة وضرورية لمن ينتظرون ساعة الصفر لتنفيذ توجهات وسياسات البيت الأبيض المعلنة، فسوريا باتت بكل تأكيد هدفاً معلناً وان لم تحسم ادارة بوش بعد خياراتها حوله على ما يبدو اسقاطا على ما تعانيه من متاعب جمة جراء احتلال العراق.

ويبقى الدور اذاً على النظام السوري وقياداته التي عليها أولا تحاشي الدخول في المستنقع المقبل وتقليل مخاطره المحتملة، والكف عن التساهل في القاء التهم على التيارات اللبنانية المناوئة لسياساتها أو على الإعلام اللبناني واللبنانيين أو حتى محاولة التعامل مع القضية بطريقة ابراء الذمة كما هو حاصل الآن مع قضية انتحار وزير داخليتها، فكل ذلك لن يجدي نفعا مهما اختلقت له من مبررات، الذي ينفع السوريين هو أهمية التفكير بعقلانية ونضج اكبر للخروج من حالة الارباك التي تعيشها القيادة في سوريا والتي بدأت بعيد خروج قواتها من لبنان، على أن تسخر لذلك كامل قدراتها وخبراتها الدبلوماسية وتبدي تعاوناً اكبر في القضايا التي تعاونت فيها من قبل خاصة ملف الارهاب وربما الى حد كبير الملف العراقي، دون التنازل عن المبادئ التي عرفت سوريا بالدفاع عنها وهذا بحد ذاته يحتاج الى بيان وفكر ووضوح في الرؤية يجب أن يستتبعه توجه جاد باتجاه عبور مطلوب لعقبات ومزالق التفكير الشمولي في أساليب ادارة الدولة والذي اثبت في أكثر من مرة عجزا حقيقيا لفهم المتغير السياسي العالمي، وأمامنا العراق كمثال حي لتلكؤ الأنظمة الشمولية على تجاوز اخفاقاتها والغوص في مستنقعها حد الركب.

فالمكابرة والسكوت على الأخطاء لن تجدي نفعا مع هكذا وضع، خاصة اذا ما ظلت الجبهة الداخلية هشة أو متداعية، فالوضع في سوريا على مدى أكثر من عامين على وجه التحديد لم يكن يتسم أبدا بحالة الانسجام المطلوبة، فمن بروز أصوات قوى المعارضة الى محاولات فتح ملفات حقوق الانسان واعتقال الناشطين فيها الى ملف المعتقلين اللبنانيين، بالإضافة الى تعقيدات الوضع الاقتصادي والسياسي الأخرى الى تراكم ملفات الفساد دون حل والتي كان من بين ضحاياها رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي الذي انتحر هو الآخر ليقفل بعدها ملف قضيته كما يتوقع أن يحدث الآن مع قضية انتحار وزير الداخلية الأسبوع الماضي.

إن سوريا لم تستنفد بعد كامل خياراتها وأمامها فرصة ان لم نقل فرصا لتنأى بنفسها بعيدا عن محاولة جرها الى حيث تريد الإدارة الأمريكية وصقورها، ولابد من التذكير هنا أن أوضاع سوريا وان تشابهت بعض الشيء فهي ليست كأوضاع ايران، ولا بد والحال هذه من العودة الى الشعب السوري والتوافق أولا حول تحقيق الحد الأدنى من الممارسة الديمقراطية في الحكم وممارسات حقوق الانسان لكي تتجاوز سوريا حاضرها المليء بالمتاعب والتي تدلل عليها بكل وضوح عمليات الانتحار او النحر لا فرق في أوساط قياداتها، والتي لم تهدأ ولن تهدأ طالما بقيت المراهنة على المضي في الطريق الخطأ في الزمن الخطأ والظروف غير المواتية، على أن تنفتح سوريا على العالم بصورة متزايدة باتجاه الممارسة الديمقراطية لتبدأ في معالجة كافة قضاياها العالقة فالزمن لم يعد زمن المكابرة بل الاصغاء، ولن نقبل أن تجر سوريا وشعبها يوما لا سمح الله الى مصير يتربصهما.

إن الوقت لم يمض بعد وعلينا الانتظار ليس ترقبا لنتائج تقرير ميليس وهي معروفة سلفا، وانما انتظارا لحنكة منتظرة طالما عرفت بها القيادة السورية منذ الراحل حافظ الأسد للخروج من مأزق لا نريده أن يكون بداية لتذويب سوريا في مستنقع آسن كما هي حال العراق الآن حفاظا على مكتسبات الشعب السوري وسوريا وموقعها المتميز في الوطن العربي والتي لن يغفل دورها التاريخي في الدفاع عن القضايا العربية، فلتكن حادثة انتحار غازي كنعان بداية لتدشين خيارات سوريا نحو المستقبل وتحصين جبهة سوريا الداخلية في الأخذ بطريق الديمقراطية وحقوق الانسان وبناء دولة المؤسسات والقانون بدلا من جعلها لقمة سائغة للقوى المتربصة بها.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)