بسقوط المنافس الشيوعي العالمي، بقيت «الرأسمالية» وحيدة في طرحها لنموذجٍ سياسي واقتصادي وثقافي متكامل لا يمكن أخذ بعضه دون البعض الآخر. فالصيغة السياسية للأنظمة الغربية هي الوعاء السياسي لمضمون «الاقتصاد الحر» والمنافسة التجارية الحرة.

كذلك فإنّ بناء أنظمة سياسية واقتصادية «حرة» يتطلّب «شرعية ثقافية» من المجتمع ومفاهيم وقِيَم تتماشى مع عناصر الفكر الرأسمالي، بحيث تتكامل العناصر الثلاثة: ثقافة ـ اقتصاد ـ سياسة، لتبني «المجتمع الرأسمالي الحر». لذلك، كانت أطروحة «العولمة» وكأنها نتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.

إنّ الأطروحة الغربية عن «العولمة» هي الآن تحت القيادة الأميركية التي كانت تقود معظم الأحداث الدولية في القرن العشرين، وكانت أميركا رأس حربة المجتمعات الغربية الرأسمالية في مواجهة المجتمعات الشرقية الشيوعية. لذلك، فإنّ الولايات المتحدة تجد نفسها في موقع المنتصر الأول بعد سقوط الكتلة الشيوعية، وهي ـ من وجهة نظر قياداتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية ـ معنيّة الآن بقيادة العالم كلّه وباستكمال نشر عناصر الدعوة الرأسمالية ومفاهيمها الثقافية والسياسية والاقتصادية.. ولصالح أميركا أولاً.

لكن هذا الدور الأميركي الهادف بقاع الأرض كلّها، لا يريد معه شريكاً منافساً حتى ولو كان من داخل المجتمعات الغربية الرأسمالية نفسها. لذا، ترافقت محاولات الهيمنة الثقافية الأميركية على الشعوب الأوروبية، مع فترة سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث كان ذلك ضرورياً من وجهة النظر الأميركية حتى لا تخرج أوروبا عن القيادة الأميركية، وتبني لنفسها (في ظلّ خطوات الاتحاد الأوروبي) عناصر قوة مستقلة (ومنافسة) للقوة الأميركية الرائدة الآن.

وقد امتزجت في مطلع عقد التسعينات نظريتان غربيتان مصدرهما الأساسي أميركا، الأولى كان رائدها صموئيل هنتينغتون، وعنوانها: صراع الحضارات (وتخللت نظريته مقولة الصراع الحضاري القادم بين الغرب والإسلام)، والثانية كان رائدها فوكوياما، وعنوانها: نهاية التاريخ (والتي وصلت إلى خلاصة مفادها أن الحضارة الغربية قد انتصرت على غيرها وهي الحضارة الوحيدة القائمة الآن). وحسب اجتهادي، فإن النظريتين تكملان بعضهما البعض وتستهدفان العالم كله وليس فقط الإسلام والمسلمين تحديداً.

فالحديث عن الإسلام والغرب هو بحد ذاته حديث عن شيئين مختلفين تماماً: فالإسلام هو دين وحضارة وكلاهما (أي الدين والحضارة) أشمل وأوسع من أي زمان ومكان. بينما الغرب هو موقع جغرافي يحمل مضامين دينية وثقافية وحضارية مختلفة، والإسلام فيها كما هي الأديان الأخرى.

أيضاً، فإن تنافس أوروبا هو الآن مع الولايات المتحدة الأميركية (أي ضمن الغرب نفسه) وليس مع المسلمين والعالم الإسلامي. فأميركا هي القوة العظمى الوحيدة الآن التي تسعى لإبقاء السيطرة والهيمنة على أوروبا، ولمنع أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة عظمى منافسة لها. فمشكلة أوروبا الآن هي مع أميركا: سياسياً واقتصادياً وثقافياً حتى لو جمعتهما حضارة واحدة.

فوحدة الحضارة لم تمنع الصراع الفرنسي ـ البريطاني على العالم في القرون الأخيرة، ولم تمنع من وقوع أخطر حربين عالميتين على الأرض الأوروبية في القرن العشرين. إن فرنسا مثلاً شهدت في عقد التسعينات الماضي احتجاجات كثيرة على محاولات الهيمنة الثقافية الأميركية على حساب الثقافة الفرنسية الخاصة، بينما اتخذ الكونغرس الأميركي قرارات تحظر على الشركات الأميركية التعامل مع الشركات الأوروبية وغيرها التي تحاول التعامل مع دول عليها «حالة عزل» أو حصار أميركي..

إن أوروبا الغربية تسعى إلى علاقات خاصة مع الدول العربية والى سياسة «متوسطية» (نسبة للبحر الأبيض المتوسط الذي يشترك فيه الأوروبيون والعرب)، بينما تسعى أميركا إلى الانفراد بالمنطقة العربية وثرواتها ومستورداتها العسكرية والاقتصادية المختلفة، وتطرح «السوق الشرق أوسطية» التي بوابتها إسرائيل وُتجّارها الأساسيون من الأميركيين!..

إن أوروبا الغربية تمارس نوعاً من السياسة الخارجية المستقلة تجاه الصراع العربي/ الإسرائيلي وتحاول أن تكون أكثر توازناً في المواقف قياساً على الموقف الأميركي المنحاز لإسرائيل دائما.. لذلك، تسعى أميركا إلى التخفيف من حدة «الاستقلالية الأوروبية» التي تقودها فرنسا وألمانيا، واستباق تحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة منافسة خطرة على المصالح الأميركية في أهم بقعة جغرافية بالعالم: الأرض العربية من المحيط إلى الخليج.

وما في هذه البقعة من ثروات طبيعية، وموقع جغرافي استراتيجي، ورموز ومقدسات دينية للعالم بأسره. إذن، هو صراع في الدائرة الغربية نفسها، لكن على المصالح في المنطقة العربية تحديداً وفي العالم الإسلامي عموماً. وقد كان العرب ـ كما كل شعوب العالم الثالث ـ ضحية الصراعات بين قوى الغرب الكبرى، أكثر من مرة في التاريخ القديم والمعاصر.

إن أطروحة «صراع الحضارات» والحديث عن الصدام بين الإسلام والغرب، يخدم الاستراتيجية الأميركية الهادفة إلى تطويع الأوروبيين وضمان وجودهم تحت المظلة الأميركية من جهة، والى تبرير الإجراءات الأميركية في العالم الإسلامي من جهة أخرى.

هي أطروحة كالمنشار: تقطع في الاتجاهين، وتحاول أن تستند إلى توظيف سلبيات الماضي عند الطرفين الأوروبي والعربي: الحروب الصليبية وما سبقها من امتداد إسلامي إلى قلب أوروبا، والاحتلال الأوروبي الغاشم للعديد من دول المنطقة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

وعلى الرافضين لأطروحة «صدام الحضارات» ـ وهي أسلوب الترهيب ـ القبول بأطروحة أخرى تقول إن العالم اليوم تحكمه حضارة واحدة تحت شعارات «العولمة»، أي الترغيب بالانتماء إلى «الحضارة» الواحدة القائمة الآن: الغربية في ملامحها وسماتها، والأميركية في قيادتها وفي توظيفها.

ولا شك بأن أساليب الإرهاب والعنف المسلح بأسماء إسلامية، تخدم بشكل كبير هذه الاستراتيجية الأميركية وإن كانت شكلاً تتصارع معها في أكثر من ساحة! وفي ظل هذا العالم المتغير، فإن تصحيح الذات العربية والذات الإسلامية يجب أن تكون له الأولوية قبل الحديث عن حوار أو صراع للإسلام مع الغرب.

إن العرب يتحملون ـ بحكم المشيئة الإلهية ـ دوراً خاصاً في ريادة العالم الإسلامي، فأرضهم هي أرض الرسل والرسالات السماوية، ولغتهم هي لغة القرآن الكريم، وعليهم تقع مسؤولية إصلاح أنفسهم وريادة إصلاح الواقع الإسلامي عموماً.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)