مع أنه عام كوارث طبيعية، من التسونامي حتى الزلزال، ومع أننا لا ندري بعد مَن سيتهم مَن في منطقتنا بالمسؤولية عند سماع الخبر عن أول إصابة بانفلونزا الطيور، ومع أن سلوك الناس في بلادنا يبدو كحالة انتظار لكارثة أخرى لا علم للناس بطبيعتها، إلا أن السياسة ليست كارثة طبيعية.

لقد عمم شارون على وزرائه أن يصمتوا في كل ما يتعلق بلبنان وسورية، «ولا نفَس»!، وأن يسيروا على رؤوس الأصابع لئلا يلتفت أحد إلى وجود إسرائيل. ورغم مقابلة زئيف فركش، رئيس شعبة المخابرات العسكرية الإسرائيلية، الصريحة كعهد العسكريين عادة في مقابلات ملاحق الأعياد التي تحتفي بهم (معاريف 17 تشرين الاول/ اكتوبر 2005)، ورغم تعبيره الصريح عن رغبة إسرائيل بنتيجة معينة تمس الرئيس السوري بغض النظر عن الحقيقة التي لا يستطيع أن يجزم بشأنها على حد تعبيره، يبقى الصمت هو الخبر بغض النظر عما إذا ساد الصمت حقيقة ام لا. فحتى لو تكلمت إسرائيل يلتزم المستمعون، عفواً المشاهدون، بالخبر حول الصمت في منطقة تنتظر، أو تتأكد لهم نظرية مؤامرة جديدة تؤكد عدم جدوى أي فعل خلا فعل المشاهدة.

والصمت المعلن هو نمط سلوك إسرائيلي متجاوب مع الأجندة الأميركية معروف منذ حرب الكويت، إذ تبلغ أميركا إسرائيل رجاءها أن تصمت وألا ترد، وتلتزم إسرائيل بعد أن «تتفلت» قليلاً صائحة «امسكوني عنهم»! وينم هذا النمط من السلوك عن تفاؤل بعمل الآخرين لتحقيق الغايات التي تسعى إليها إسرائيل من دون أن تجهد نفسها، وهم في هذه الحال الولايات المتحدة وحلفاؤها، كما يعبر عن إدراك بأن أي شيء يبدر عن إسرائيل قد يؤدي إلى إرباكه. وهو وعي ذاتي تحسد عليه إسرائيل، بمعنى أنها تعرف كم هي محبوبة في المنطقة، بحيث أن أي كلام صادر عنها قد يخرب اللعبة بتهمة أنها لعبة إسرائيلية. كما يدلل على مستوى ما من التنسيق في الأجندات، إذ أن إسرائيل تطلب عادة ثمناً لصمتها ولتحييدها. فالصمت والترفع عن رد الفعل ليس من صفاتها الحميدة. ثم أنها لا تحب حقيقة أن شركاءها يخجلون بها.

لا يمكن اعتبار هذه الدزينة من الحقائق مجاملة للشعوب، أو للرأي العام، أو لقوى الممانعة ضد المخطط الأميركي، كما تسمى. فأي رأي عام هو ذاك الذي لا يستثيره إلا موقف إسرائيلي معبر عنه علناً؟ والوجه الآخر لهذا التساؤل: أي رأي عام هو ذاك الذي يستثيره أي كلام إسرائيلي؟ ولماذا لا يرى الشر في الظاهرة إلا بنسبة مشاركة إسرائيل فيها؟ والوجه الثالث: ربما لم يعد الموقف الإسرائيلي بذاته دون مركبات وعي ومواقف أخرى يستثير أحداً. وربما يتم تكرار معادلة الصمت الإسرائيلي هذه كنوع من «احترام مشاعر العرب والمسلمين» كما في الشكليات الدينية والعادات الشكلية، وهي مقولة عنصرية منتشرة. ويبرز «احترام المشاعر» مقابل «استثارة المشاعر» التي يستغلها المتطرفون بحجة الموقف الإسرائيلي. والصمت الإسرائيلي غير صامت فعلاً، ففي إسرائيل صحافة متنافسة تستنطق الحجر لتملأ مئات صفحاتها اليومية بأي كلام وأية ثرثرة.

وتتقدم الأجندات حتى من خلال تأجيل حسم معركة من دون أن تغيب عن الأذهان ضرورة إحراز فوز بالنقاط في الجولات الجارية لاستنزاف الخصم أو خداعه بالأوهام. فلا غرابة ولا سر في أن إسرائيل تعتبر التسلح النووي الإيراني الممكن خطراً حقيقياً. وتعتبر مع تطور الأجندة الأميركية بخصوص سورية الفرصة التاريخية مؤاتية لتركيع سورية في قضايا إستراتيجية ولـ»تفهم وتستوعب ما يفهمه الآخرون في المنطقة». ورايس لا ترى حتى حاجة لتطوير الطاقة النووية لأغراض مدنية في إيران (!) فلديها ما يكفي من النفط. ويجهد مسؤولون في البنتاغون ذاتهم لإقناع «نيوزويك» (4 تشرين الاول/ اكتوبر) أن قيام الجنرالات والأدميرالات بـ «حتلنة» أي تحديث الخطط العسكرية لمهاجمة سورية وإيران هو أمر روتيني. والجميع يعرف أن ضرب إيران وسورية يتطلب ضرب حزب الله في الطريق، وهذا بحد ذاته يريح إسرائيل أيضا... وهكذا.

وربما لتسهيل أمر تنسيق الأجندات مع أميركا تريد بعض الأنظمة العربية أن يصدق رأيها العام ما تقوله عن خطة شارون في فك الارتباط وكأنه جزء من خارطة الطريق. ولا بد أنها تستعين لكي تصدق بمن يعومون على شبر ماء من كتبة اليسار الصهيوني العاجز، «الباحث عن الدبس حتى في مؤخرة النمس». فليس لدى هؤلاء بعد فشل كامب ديفيد من مشروع سوى شارون. كما أعانتهم أوروبا على الاعتقاد أن شارون قد تغير لأنها أيضاً عاجزة، والأصح متعاجزة، عن تقديم بديل ما للسياسة الأميركية، ولأنها غير قادرة ولا راغبة، من موقع الخانة التي موضعت نفسها فيها، بالضغط على شارون فإنها تفضل تجميل صورته، والضغط على نفسها لتتقبله، وتدعو العرب لقبول ما يعرضه شارون صاغرين. وإذا لم يكن انجازاً تصوروه انجازاً! ولكي تشاركوه الفراش أغمضوا عيونكم وفكروا بأميركا!

قلنا ان شارون لم يغير جوهر طروحاته منذ نهاية الثمانينات، أي منذ بروز الخيار الفلسطيني بدل الأردني في الانتفاضة الأولى، وفك الارتباط الأردني مع الضفة، وحللنا بما فيه الكفاية استراتيجية شارون التي أدت إلى فك الارتباط، وقد تبين من رد الفعل الدولي ومن تكثيف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية علناً وصراحة، ومن ازدياد الضغط على الفلسطينيين أن شارون يقطف ثمار هذه الاستراتيجية. لم ندع ان شارون لم يتغير تشاؤماً أو جموداً، بل لأن الأمر يتطلب قراءة مواقفه والتمييز بين الدعاية الانتخابية والمواقف الحقيقية والتغيرات التي طرأت على الموقف العربي من ناحية أخرى.

ولكن ماذا بشأن استراتيجيته هو في المرحلة المقبلة؟ لقد بانت «بشائرها» من رفضه مقابلة الرئيس الفلسطيني، فهل أصبح حتى لقاء شارون مطلباً؟

إذا كانت استراتيجية العرب هي الديبلوماسية الأميركية فقط، فلا غرابة أن يفضل شارون التفاوض مع أميركا مباشرة من دون العرب، وهذا ما فعله في خطة فك الارتباط متباهياً. عند ذلك يصبح اللقاء مع العرب مجرد تطبيع تريده إسرائيل من ناحية، لكنها غير مستعدة للتضحية من أجله بشيء من ناحية أخرى. كما يغدو اللقاء تتميم معاملة للقادة أمام شعوبهم بأن لهم دور. وشارون يستغل حاجتهم لإثبات ذلك لتقديم طلبات ابتزازية وللتعامل بغرور وتبجح.

تتلخص استراتيجية شارون في المرحلة المقبلة بما يأتي: أولاً، توسيع وتثبيت التيار المركزي في الشارع الإسرائيلي الذي يتجاوز حدود الأحزاب ويؤيد فكرة الانفصال الديموغرافي مع الفلسطينيين بموجب القاعدة الآتية: الانفصال عن أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الأرض. وإذا احتفل الفلسطينيون حتى بأقل من ذلك أو انصاعوا لإملاءات شارون فلا بأس، لأن هذه قوى لا تبحث عن عدالة ولا إنصاف بل عن انفصال عن الفلسطينيين بالظروف الواقعية المعطاة. ثانياً، توسيع التعاون مع الولايات المتحدة آخذاً في الاعتبار مهماتها الجديدة في المنطقة منذ احتلال العراق. وهذا يعني اضطرار إسرائيل لأن تساير أكثر، ولكنها تساير أميركا أخرى، أميركا أكثر اتفاقاً معها في المسائل الجوهرية، ولذلك فهي تساير تكتيكياً من أجل مكاسب استراتيجية من نوع رسالة الضمانات الأميركية لشارون. ثالثاً، إشغال الفلسطينيين في المفاوضات حول قضايا من نوع المعابر والحدود في غزة ومرور البشر والبضائع من غزة واليها، ومن نوع الميناء والمطار. حتى ما كان مفروغاً منه قبل فك الارتباط لم يعد مفروغاً منه. من أجل مثل هذه القضايا سيزور المنطقة الوفود والموفدون، وسيطالب شارون بالاجتماع وعلى هذا سيتم التفاوض. لم ننته من أمر غزة بعد إذاً، ولا حتى تفاوضياً. رابعاً، في هذه الأثناء تبتعد المفاوضات السياسية حول الحل الدائم. وتصبح مشروطة بتنفيذ الفلسطينيين لالتزاماتهم من خارطة الطريق أي الانقضاض على ما يسمى في نصها بـ «البنية التحتية للإرهاب». والمقصود هو ضرب خيار الكفاح المسلح. ويعرف شارون أن المنتصر في حرب أهلية فلسطينية هي إسرائيل، وذلك ليس فقط نتيجة للفوضى وإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، بل لأن أي طرف ينتصر سيصبح في اليوم التالي حتى أكثر ارتباطاً بإسرائيل وأقل قدرة على فرض شروطه. خامساً، يتم استثمار فك الارتباط لضغط دولي وعربي على الفلسطينيين في هذا الاتجاه. سادساً، في هذه الأثناء تشارك إسرائيل بشكل فاعل سراً وصامت علناً في محاولة الجمع بين فرض الحصار السياسي الدولي على سورية مع فرضه على المقاومة في لبنان.

تستحق هذه الخطة أن تسمى استراتيجية طبعاً، خصوصاً اذا رافقها تكثيف الاستيطان على الارض، وزيادة استخدام القوة العسكرية، وسعي عربي لإرضاء شارون إرضاءً لأميركا. لكنها ليس مضمونة النجاح لو قابلتها إستراتيجية فلسطينية متفق عليها.

وتتم مسايرة قدرات الحلفاء وظروفهم، لكن الأجندات مفروضة ومحددة ولم تتغير بخصوص نزع سلاح المقاومة في لبنان مثلاً. وإذا أمكن الآن تجميع أكبر عدد من القوى على نزع السلاح الفلسطيني، والظرف في السلطة الفلسطينية مؤات، فلم لا. ومنها ربما تقود الطريق الى إقامة سفارات للبنان وفلسطين، ومن السفارات الى جوازات سفر للفلسطينيين ليتحولوا من لاجئين الى مغتربين، أي رعايا سفارة. وبغض النظر عن التبريرات وصحتها والموقف منها، المهم أن هذا يدفع بتنفيذ الأجندة خطوة إلى الأمام، ويعمق المزاج المطلوب والأجواء التي يراد خلقها. ولذلك يتم التأكيد عليه، فهو ينسجم على كل حال مع مخطط آخر في فلسطين لمقايضة مشروع الدولة بكل شيء. وهذا تنفيذ فعلي للمشروع. ويجد لارسن علاقة بين مهمته في لبنان ومهمة أخرى غير منتهية له هناك وحسرات قديمة من أيام تعثر اتفاقيات أوسلو وتحميل المسؤولية لياسر عرفات. هنالك إذا هدف للمهمة له علاقة بإنهاء تدريحي لمسألة اللاجئين. أما هدف لارسن اللبناني من مهمته في لبنان فهو حزب الله. وهو يتحدث فجأة بلغة إنهاء مشكلة حزب الله بالحوار، مع أنها ليست لغته، لأنه يتم تنسيق الأجندات. ولكن المهمة الكبرى لم تتغير.

أما الشعوب فتتم استثارتها بلغة: «ضد» أو «مع». وليس المقصود ضد ماذا ومع ماذا، بل ضد من ومع من؟ ولا تتم مناقشة مسألة ما وراء ذلك. اي إلى اين يذهب البلد، أي بلد، وماذا سيحصل له إذا خضع أو أخضع لأجندات الدول العظمى؟ يتم تغييب الرأي العام لتصبح علاقته بما سيجري علاقة بكارثة طبيعية يتم انتظارها أو منحة ربانية من السماء طال انتظارها، حسب زاوية النظر.

وإذا مر الدستور العراقي المقترح فلن تبقى للأميركيين محطة ديموقراطية يشيرون إليها ويؤمِّلون الناس بها في المنطقة، إلى 15 كانون الاول (ديسمبر) المقبل، وهو موعد الانتخابات البرلمانية. وبعدها سيضطرون إلى شرح لماذا لا ينتظم تزويد الكهرباء في العراق، ولماذا لا ينتج البلد ما يكفي سياراته من الوقود، ولماذا تستمر المقاومة لوجودهم، ولماذا لم تحل الديموقراطية «مسألة الإرهاب»؟ ومنذ ان كتبنا مؤخراً في هذا الموقع عن بداية طرح هذا الموضوع في الصحافة الأميركية المركزية انتشر بشكل واسع جداً النقاش في الولايات المتحدة حول مسألة تصدير الديموقراطية هذه، (تحليل ديفيد سنجر الاخباري في «نيويورك تايمز» 17 تشرين الأول 2005) وتغيرت لهجة بوش تجاه الإرهاب إلى درجة انه بات يتعامل مع الإرهاب في خطاباته كقوة بحجم المعسكر الذي وازى قوة أميركا إبان الحرب الباردة. ومع أن هذا التشبيه ينم عن اعتراف بفشل الجهود المبذولة ضد هذا الخصم وبازدياد قوته منذ شنت عليه الحرب في أعقاب 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ، فمن الواضح ان هذا التوجه لا يبشر بالخير من ناحية البدائل التي تطرحها أميركا أمام شعوب المنطقة. كما أنه لا يدل على توازن أو عقلانية في تقويم حجم هذا الخصم وقوته. لكن الرئيس الأميركي يهيئ رأيه العام لقبول التحدي الذي طرحه الظواهري الذي اقتبسه الرئيس الأميركي بالاسم أن أميركا لن تهرب وأنها لن تفعل ما فعلته في فيتنام ولبنان والصومال. جميل ان نتكهن ماذا كانت ستفعل في فيتنام لو بقيت حتى الآن، او هل كان لبنان سيبدو في حينه كما تبدو العراق حالياً لو بقي الأميركيون؟ مضاربات سخيفة جداً، لكنها قد تكون مفيدة للتعرف على العقل الأميركي الحاكم حاليا. فقد وجد رئيس أميركا نفسه مضطراً لاستخدام تعبير للظواهري لكي يحرض رأيه العام ويستثيره.

هذه هي الصورة التي تتجلي دون ان ينجلي الليل. وهي لن تزول مع كابوسها إذا لم تدرك القوى الحية في المجتمعات والدول العربية ان الكارثة الطبيعية الحقيقية هي تحييدها لذاتها ولإرادتها، فهي ليس أقلية بين قوتين عظميين كما يدعي بوش، بل هي قوى الأكثرية المحيدة. وسيكون على من لديهم مشاريع أن يحولوا الأغلبية المحيدة إلى قوى تقتحم ساحة العمل السياسي بتصور ومشروع، وان تتقاطع تصوراتها وتجمع أجنداتها كما تجتمع أجندات الآخرين التي تنتظر تطبيقها كأنها كارثة طبيعية. لم تشاور الشعوب العربية ولا قواها الحية قبل تنفيذ جريمة 11 ايلول وغيرها في اسبانيا وأندونيسيا، أو قبل اغتيال الحريري وغيره من صحافيين وكتاب لبنانيين وهي لم تشاور قبل احتلال العراق ولا فيما يعد حاليا من مخططات أميركية لسورية ولبنان وفلسطين.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)