هناك مؤشرات بالغة الدلالة وواضحة بلا أي لبس، ومنها ان الأداء السوري تجاه الضغط المتصاعد والمتضاعف على نظام الرئيس بشار الأسد، بات يعاني من ارتباك كالارتباك الذي عانى منه ذات يوم نظام صدام حسين، والذي بدل التعامل مع الواقع لجأ الى المناورات والى سياسة الهروب الى الأمام، فكانت النتيجة كل هذا الذي حصل منذ مارس (آذار) عام 2003 وحتى الآن.

إن سورية مستهدفة من قبل الولايات المتحدة لأسباب متداخلة كثيرة، وإن هذا الاستهداف أخذ يشتد ويتضاعف بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، ومنذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وهو سيشتد أكثر وأكثر بعد انتحار وزير الداخلية السوري غازي كنعان المثير للشبهات والتساؤلات، وأيضاً بعد صدور التقرير النهائي للمحقق الدولي ميلتس الذي من المتوقع صدوره بعد أيام.

ودلالة الارتباك في الأداء السوري إزاء كل هذه المستجدات الضاغطة، الجدية هذه المرة، لا تتوقف عند مجرد الحملات الإعلامية المنطلقة من دمشق عشوائياً وفي كل الاتجاهات، والتي اعتبرت ان الاعلام اللبناني هو الذي «اغتال» غازي كنعان!! بل وتتعدى هذا الى التلويح للأميركيين مرة بغصون الزيتون ومرة أخرى بقبضات الفصائل الفلسطينية العاطلة عن العمل، وبصخب المعممين الإيرانيين الذين تقف على أبوابهم الآن ورطة أخطر وأسوأ من الورطة التي اقتحمت الأبواب السورية.

لقد أخطأت دمشق مبكراً عندما لم تقرأ التحولات الكونية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه المنظومة الاشتراكية، قراءة صحيحة وبعيون غير حولاء، ولقد أخطأت عندما رفضت الاقتناع بأن ما جرى في واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 هو انعطافة تاريخية.. ثم أخطأت مجدداً عندما وضعت يدها في يد إيران وراهنت على إمكانية إغراق الولايات المتحدة في أوحال الرافدين، وإفشال استراتيجياتها ومخططاتها ليس في هذه المنطقة وإنما في العالم بأسره.

ما كان على سورية، التي كانت تعرف أنها مستهدفة، ان تضع نفسها على الرصيف الذي أرادت أميركا وضعها عليه، وكان عليها ان تتصرف في مرحلة ما بعد احتلال العراق بغير الطريقة التي تصرفت بها، كما وكان عليها ان لا تبقى تتعامل مع لبنان وبخاصة بعد صدور القرار 1559على أنه حديقتها الخلفية، وكان عليها أيضاً ان ترفع الضغط عن الجبهة الداخلية، وان لا تبقى تعتقد بأن هناك امكانية للاستمرار بمسيرة القبضة الحديدية، التي استمرت أكثر من أربعين عاماً، بعد ان حدث كل هذا الذي الحدث في العالم ابتداء ببداية العقد الأخير من القرن الماضي.

ربما ان دمشق اعتقدت ان بإمكانها لعب لعبة المزيد من التشدد من أجل المزيد من المرونة، ولذلك فإنها، بدل ان تتحلى بالمزيد من الواقعية وتبادر الى مراجعة كل سياساتها ومواقفها وتعيد النظر بكل تحالفاتها، بادرت الى اتباع تلك القاعدة غير المضمونة العواقب القائلة ان خير وسائل الدفاع هو الهجوم، فوجدت نفسها بالنتيجة في هذا المأزق الحقيقي الذي يحتاج الخروج منه الى معجزة سماوية.

إن الملاحظ ان سورية منذ ان فتح لها الاميركيون ومعهم الفرنسيون جبهة لبنان، التي هي الخاصرة السورية الرقيقة، بدأت تتحرك بطريقة تدل على الارتباك. فبدل ان تبادر الى فتح أبواب التفاهم والحوار مع الأميركيين عبر بوابات بعض العواصم العربية، نجدها تذهب بعيداً في التحدي والاستفزاز. فبالإضافة الى ذهاب الرئيس بشار الأسد الى طهران تحت لافتة تهنئة الرئيس الإيراني الجديد محمود احمدي نجاد، استقبلت دمشق، وفي الوقت الخطأ، رئيس مجلس الشورى الإيراني غلام علي حداد عادل، الذي هو بدوره رمز مــن رموز التشدد في نظام «ولاية الفقيه» وأحد دعاة «الثورة الاسلامية الدائمة»!!

لقد أرادت دمشق ان تخيف الاميركيين وتجبرهم على وقف هجومهم ضدها وعلى محاورتها والتسليم لها بدور إقليمي رئيسي في ترتيبات مستقبل المنطقة، فتصرفت على أساس أن هناك جبهة تصدٍ مقاتلة تضم إيران وسورية و«المقاومة» في العراق وحزب الله اللبناني وما بقي على الأطلال من فصائل فلسطينية غالبيتها مجرد لافتات فقط وأسماء بلا مضامين، ومجرد قيادات بلا قواعد ومجرد جنرالات بلا جيوش.

وهكذا وبدل ان تبادر دمشق الى هجوم سلمي معاكس، فإنها بادرت الى استقبال فصائل الرفض الفلسطيني في القصر الجمهوري كما وبادرت وفي القصر نفسه الى استقبال أمين المجلس الاعلى للأمن القومي الايراني علي لارجاني، وهذا فهمته الولايات المتحدة على أنه تحدٍّ والمزيد من التحدي وإنه إعلان حرب، وبخاصة أن أحمد جبريل الضابط السابق في الجيش السوري والامين العام للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، لم يتورع بمجرد خروجه من هذا الاجتماع عن توجيه تهديد «عنتري»، على غرار ما كان عليه الوضع قبل انهيار قلعة «عنجر» الى رئيس الوزراء اللبناني فؤاد سنيورة.

ما كان على سورية التي هي بحاجة الى المرونة والتهدئة ان تقوم بكل هذا الذي قامت به، وما كان عليها ان تزيد الوضع المتأزم مع لبنان تأزماً، وكان المفترض ان تنأى بنفسها عن كل ما يجري في العراق، وان تبتعد عن إيران، وألا تثير مشكلة سلاح المخيمات، وان تقوم بالتوازي مع هذا كله بالتخلص من رموز «الحرس القديم» الذين هم في حقيقة الأمر يدافعون عن مصالحهم ومواقعهم، عندما يدفعون بلدهم نحو المزيد من سياسة الشدة والتشدد.

لا حاجة لسورية لا للمخيمات في لبنان ولا لأسلحتها، كما وأنه لا حاجة لها لحزب الله وسلاحه، والمفترض ان تقبل دمشق الآن بما بقيت ترفض مناقشته وحتى الإتيان على ذكره، وهو تبادل العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء مع لبنان، وترسيم الحدود معه. فرفض الاعتراف بالواقع ربما يصمد بعض الوقت لكنه لا يمكن ان يصمد الى الأبد، ثم ان من الافضل ان تكون العلاقات بين الدول العربية المتجاورة، حتى التي يضمها إقليم جغرافي واحد وتقع في منطقة واحدة، مبنية على علاقات حسن الجوار والأخوة والمصالح المشتركة، فالماضي ذهب ولن يعود، ثم وإن هو عاد فلن يعود بالصيغ السابقة.

إن بإمكان سورية ان تلتقط أنفاسها مرة أخرى، وان تتخلص من هذا الشرك الذي أوقعت نفسها فيه ثم ورغم ان الامور غــدت في الفترة الاخيرة أصعب بألف مرة مما كانت عليه قبل «انتحار» غازي كنعان، الذي هو ثالث مسؤول سوري يلجأ الى هذا الأسلوب الوحشي المحرم، للتخلص من أزمته الذاتية والوطنية، فقد سبقه الجنرال عبد الكريم الجندي في عام 1968وسبقه رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي،.. إلا ان استدارة سياسية عاجلة على الصعيد الداخلي والخارجي ستجعل هناك إمكانية مؤكدة للتخلص من هذا الوضع الخطير والمربك والانطلاق من نقطة بداية جديدة.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)