ليست هي المرة الأولى التي تتعرض فيها سورية لحملات سياسية وإعلامية مضادة من قبل الولايات المتحدة، اذ لم يعد خافيا على أحد أن سورية باتت الهدف الثاني بعد العراق ضمن الأجندة الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط (وذلك لأسباب عديدة تناولناها في مقالات سابقة)! وما قانون محاسبة سورية واستدعاء السفيرة الأميركية في دمشق والدور الأميركي البارز في استصدار القرار الدولي 1559 والمساعي الأميركية الحثيثة لتدويل وتسييس قضية مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، مرورا باتهام دمشق المتكرر بإيواء منظمات فلسطينية (إرهابية) وعلاقتها بحزب الله وارتباطها بإيران، إلا دلائل على شراسة الحملة الأميركية التي استهدفت دمشق طيلة الفترة السابقة.

لكن الجديد هذه المرة في الحملة التي تشنها واشنطن ضد دمشق هو ما ورد على لسان بعض المسؤولين الأميركيين والذي تزامن مع تزايد الإشارات في الصحافة الأميركية من احتمال لجوء الإدارة الأميركية إلى الخيارات كلها المطروحة بما فيها الخيار العسكري لإجبار سورية على الانصياع لإملاءات البيت الأبيض!.

ذكرت مجلة «نيوزويك» الأميركية (13/9/2005) بأن وزارة الدفاع الأميركية بدأت في مراجعة بعض خطط التدخل العسكري في سورية من خلال دراسة مدى إمكانية شن غارات جوية على بعض المخيمات الفلسطينية وأهداف أخرى على الأراضي السورية, وقبل نحو أسبوعين ذكر السفير الأميركي في العراق «زلماي خليل زاده»(في تصريح تصعيدي غير مسبوق) أن صبر واشنطن قد نفد وأن الخيارات كلها باتت مفتوحة أمام دمشق بما فيها الخيار العسكري! أما صحيفة «نيويورك تايمز» (15/10/2005) فنقلت عن مسؤولين أميركيين بأن الجيش الأميركي يدرس حاليا خططا لشن عمليات عسكرية داخل سورية مستخدما في الوقت الحالي فرقا سرية لجمع معلومات استخباراتية عبر الحدود مع العراق (وهو ما لم تنفه الإدارة الأميركية حتى اللحظة), ورغم أن مجلة «نيوزويك» ذكرت بأن وزيرة الخارجية الأميركية «كوندوليزا رايس» استطاعت إقناع الجناح المتشدد داخل الإدارة الأميركية بالعدول عن فكرة شن هجوم عسكري ضد دمشق وأنه الأجدر بالإدارة الأميركية (والكلام لـ «رايس») تكثيف جهودها الدولية لعزل سورية سياسيا واقتصاديا، إلا أن هذا الخبر بحد ذاته يعطي مؤشرا إضافيا وخطيرا على عزم صقور البيت الأبيض شن هجوم عسكري ضد دمشق ولكن المسألة باتت مسألة وقت لا أكثر! وهنا يبرز سؤال: لماذا يا ترى تسارعت في الآونة الأخيرة حدة الضغوط الأميركية على دمشق والتلويح باستخدام القوة معها؟

كبش فداء

من الواضح أن الإدارة الأميركية تعاني من أزمة خانقة جراء المستنقع الذي وقعت فيه بالعراق نتيجة لسياساتها الخاطئة التي كانت السبب الرئيسي لتدهور مجمل أوضاع العراق، لذلك فهي حاولت أن تبحث لها عن «كبش فداء» تستطيع إلقاء اللوم عليه، وعلى ما يبدو أنها وجدت ضالتها في دمشق! فبعد أن سقطت في الوحل العراقي، بدأت الولايات المتحدة في اعتماد سياسة جديدة لها في المنطقة وهي سياسة «الهروب إلى الأمام»، أي بمعنى أن تسعى واشنطن إلى خلق بؤر توتر في المنطقة كالملف السوري واللبناني والفلسطيني والملف النووي الإيراني على أمل أن تخفف هذه البؤر من إخفاقاتها في العراق أمام العالم, ولكن ماذا يا ترى لو حدث العكس؟ أي ماذا لو ساهمت هذه السياسة في تعقيد الوضع الأميركي في المنطقة بشكل أكبر؟ أليس الأجدر على الإدارة الأميركية بدل اعتمادها على سياسة «الهروب إلى الأمام»، وبدلا من أن تفكر في نقل التجربة العراقية إلى سورية، بأن تعيد النظر من جديد في سياستها الخاطئة في المنطقة- وتحديدا في العراق- وأن تستلهم منها الدروس والعبر، لا أن تمضي قدما في (تصدير) سياساتها الخاطئة التي لن تفضي إلا إلى نشوء مستنقعات ومعضلات جديدة لها في المنطقة أسوأ من المعضلة العراقية؟

وبالعودة مرة أخرى إلى المنعطف الخطير الذي تمر به سورية (خصوصا بعد حادثة انتحار اللواء غازي كنعان)، اذ يترقب السوريون بحذر نتائج تقرير القاضي الألماني «ديتليف ميليتس» رئيس لجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي يفترض أن يقدمه إلى مجلس الأمن خلال أيام والذي سيحدد طبيعة المرحلة المقبلة وكيفية تعاطي الإدارة الأميركية مع دمشق, ورغم أن التقرير ليس نهائيا وأنه من المرجح تمديد مهلة عمل فريق التحقيق إلى منتصف شهر ديسمبر المقبل (للوصول إلى نتائج مؤكدة)، إلا أن السوريين ينتابهم الشك والقلق من احتمال استغلال نتائج التقرير وإبقاء التحقيق مفتوحا حتى يتسنى للولايات المتحدة ممارسة المزيد من الضغوط عليها, هذا من جانب، أما من جانب آخر فالأمر يتعلق في حال أدان التقرير سورية بشكل مباشر عندئذ ستجد الولايات المتحدة لنفسها الذريعة لفرض عقوبات دولية على دمشق تمهيدا لشن ضربة عسكرية تستهدف النظام السوري على غرار ما حصل في العراق، وهو ما أشارت إليه قبل أيام وزيرة الخارجية الأميركية بقولها انه «يستوجب على مجلس الأمن أن يستعد للتحرك وفقا لما سيكون عليه تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الحريري»!

يبدو من خلال التصعيد الأميركي الأخير ضد دمشق أن الإدارة الأميركية وضعت سورية في زاوية ضيقة جدا، فإما أن تقبل بالعرض الأميركي الأخير الذي أشارت إليه صحيفة التايمز البريطانية( 15/10/2005) والمسمى بـ «صفقة القذافي» على غرار ما حدث للنظام الليبي أي الاستسلام التام والإذعان للإملاءات الأميركية من دون شروط، وإما ستقدم الولايات المتحدة على تغيير النظام الحاكم في سورية سواء عبر عمل عسكري أو عن طريق ممارسة المزيد من الضغوط على النظام حتى ينهار!

على أية حال، يبدو أنه على سورية أن تستعد جيدا للمرحلة المقبلة التي تبدو أنها ستكون عصيبة جدا خصوصا بعد أن بلغ التصعيد الأميركي ذروته ضد دمشق وبعد أن اقتنعت القيادة السورية بأن واشنطن لا تريد التفاهم معها ولا حتى الجلوس معها على طاولة المفاوضات والحوار، فالشيء الوحيد المطلوب (أميركيا) من دمشق هو الإذعان التام للقرارات الأميركية.

والخلاصة هنا أنه في حال قررت سورية رفض «صفقة القذافي» أي عدم الاستسلام والإذعان للولايات المتحدة، فانه يتوجب عليها أن تعمل جاهدة على تحصين جبهتها الداخلية وذلك عبر المضي قدما في سياسة الإصلاح الداخلية كضرورة ملحة حتى تستطيع من خلالها أن تخلق لها حصنا شعبيا منيعا يساعدها على اجتياز هذه المرحلة الحساسة التي تعصف بها وبالمنطقة.

مصادر
الرأي العام (الكويت)