قلما يتمنى السوريون أن يكون بلدهم مثل العراق أو مثل لبنان أو مثل مصر أو مثل الأردن، وهي الدول العربية المجاورة جغرافيا و/أو القريبة ثقافيا ونفسيا واجتماعيا. قد يرغب بعض منهم في السير على دروب هذه الدولة العربية أو تلك، وقد يأمل كلهم في تبدل الحال واستقبال حال من سعة العيش ورشاد الحكم وقوة الدولة، لكن الأمل هذا مجردٌ لا يجد نموذجا يقتدى به، والرغبة تلك جزئية لا تجتذب أكثرية سورية واضحة.

من يريد أن تكون سورية مثل عراق اليوم؟ لا أحد. بل إن الخشية من مسار عراقي تلوّن بالقاتم موقف سوريين كثيرين من الضغوط الأميركية على النظام.

ورغم ما يوفره النظام اللبناني من انفتاح على العالم وحريات إعلامية ومؤسسات تعليمية مستقلة ومتقدمة ودخل يفوق دخل السوريين بحوالى أربع مرات، فإن طوائفيته وأزماته الكيانية وذكريات حربه الأهلية وفساد نخبته السياسية، فوق صغر حجمه، يقلل من إمكانية الاقتداء به. قد نجد سوريين يتمثلون بشباب 14 آذار (مارس) اللبناني لكنهم قلة، وقد نجد سوريين آخرين معجبين الإعجاب كله بحزب الله وزعيمه السيد حسن نصر الله، لكنه ليس إعجابا يدفع إلى الاقتداء. بالجملة، لبنان ليس نموذجا يتطلع عامة السوريين إلى محاكاته، بصرف النظر عن رأيهم في نظام حكمهم.

ورغم أن الأردنيين يتمتعون بدخول أعلى بمرة ونصف المرة من السوريين ومستوى حريات عامة أوسع وفساد حكومي أقل، فإن الأردن اصغر من سورية ويُنظر إليه بشكل عام انه أدنى حضاريا (هذا حكم لا يقبل تفحصا موضوعيا، قيمته أنه موجود). علاقات الأردن الإسرائيلية ليست شيئا يمكن للسوري المتوسط أن يتعرف فيه على شيء يتطلع إليه. بالنتيجة، الأردن أيضا ليس نموذجا يهتدي به السوريون.

مصر مؤهلة أكثر من غيرها للعب دور القدوة بحكم حجمها وعراقتها وسوابق الشراكة معها، لكن مصر تبدو أفقر من أن يرغب السوري المتوسط لبلده أن يسير على هديها، وعلاقاتها مع إسرائيل ونوعية علاقاتها مع الولايات المتحدة ليست مثالا يستنار به.

كل من الدول العربية المذكورة يمكن «التكسير» في نموذجها بسهولة في أي نقاش بين سوريين عاديين. هذا لا يعني بحال أن أوضاع سورية الراهنة أفضل من الدول العربية المذكورة، باستثناء العراق طبعا، لكنه يعني أن الفارق المحتمل بينها وبين سورية الحالية لا يغري بالتمثل بها؛ يعني أيضا ضعف جاذبيتها وتعذر اقتراح أي منها مثالا لمستقبل سوري مختلف في نقاشات السوريين حول التغيير والمستقبل.

باختصار، ليس ثمة نموذج جذاب نعرفه ويمكن أن يقتدى به. الدول التي يمكن أن نتأثر بها أوضاعها ليست جذابة، إن لم تكن منفرة؛ والدول التي تتمتع بأوضاع أحسن (تركيا، أوروبا، نمور آسيا...) ليست قريبة نفسيا أو جغرافيا منا.

هذا واقع يشعر به السوريون بصرف النظر عن موقفهم من النظام، ولا ريب أنه يمثل «نقطة قوة» غير متعوب عليها للقائمين على الوضع الراهن. ويمكن القول إن نقطة القوة هذه تمثل حسماً من حساب تطلعات حقيقية للتغيير، وبالخصوص في ظل ضعف المعارضة. ولا ريب أنه لو توفر نموذج مفتوح الآفاق في البلاد العربية المجاورة لاكتسبت تلك التطلعات قوة وملموسية اكبر. قد نتفطن إلى أن تأثير نموذج أوروبا الغربية على أوروبا الشرقية كان أكبر من أن تمكن المبالغة فيه. لقد وفر على مثقفيها ومنشقيها ومعارضيها وعامة شعوبها جهدا هائلا في الشرح والتوضيح والإقناع، وشكّل سندا لهم وظهيرا.

وقد نذكر أنه في خمسينات القرن العشرين تطلع قطاع ناشط من الرأي العام السوري إلى مصر الناصرية وأبرم وحدة معها؛ وفي بداية الستينات تشجع البعثيون السوريون على انقلاب 8 آذار 1963 بانقلاب نظرائهم العراقيين الذي سبقوهم بشهر واحد؛ وقبل ذلك وبعده بدا الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي نموذجا لـ»قوة المثال» في مجالات التنمية والعدالة والقوة عند الشيوعيين وبعض غير الشيوعيين؛ وفي السبعينات اقتبس الرئيس حافظ الأسد ملامح نظام حكمه من كوريا الشمالية وألمانيا الشرقية.

اليوم ثمة فراغ موحش في النماذج الإيجابية. النظام ذاته يفتقر إلى نموذج مقنع يقلل من شذوذه ويؤنس وحشته وينزع شيئا من غرابته. يعمد إلى اعتبار نفسه نموذجا، أو يستأنس بنموذج صيني مفترض، لا يبدو أن لدى الداعين إليه ما يتعدى فكرة انطباعية عنه. أما المعارضة فإن وجها مهما من وجوه ضعفها هو الطابع المجرد لدعوتها الديموقراطية.

هنالك، في المقابل، نماذج مضادة أو «مُثل سفلى» يخشى منها سوريون كثيرون: نموذج الاحتلال الأميركي، نموذج الحرب الأهلية (المثال العراقي مركّب منهما معا، مع مخاطر انقسام البلد)، ونموذج حكم إسلامي متشدد.

على أنه يعدل من هذا الشرط، أعني غياب النماذج الجاذبة، واقع أن الكيانية السورية أقل رسوخا من نظيراتها اللبنانية والعراقية والمصرية، وأن تماهي السوريين بدولتهم أقل من تماهي أكثرية العرب بدولهم. الواقع أن سورية هي البلد العربي الذي كانت نظم حكمه المتعاقبة، حتى قبل العهد البعثي، تبني شرعيتها على نفي شرعية وجود كيانه. ولو كانت الكيانية السورية اشد رسوخا لكان تأثير غياب النماذج الإيجابية اقوى دفعا للسوريين نحو التمسك بالأوضاع القائمة في بلدهم.

على أن غياب نماذج جذابة ليس جديدا في المجال العربي كله. إنه يعود إلى مرحلة ما بعد حرب 1973 على الأقل، الزمن الذي اتسم باتساع مضطرد للفجوة بين حركية المجتمعات وحركية السلطات، زمن نهاية الانقلابات العسكرية والمشاريع الثورية والحروب ضد إسرائيل، زمن الحروب الأهلية والديكتاتوريات الفاحشة والأصوليات المقاتلة. لكن أثر غياب النماذج يكتسب أهمية أكبر في الآن الراهن، الذي يعتقد أنه يطوي صفحة ذلك الزمن وينفتح على آفاق جديدة مجهولة.

لا يقول ما سبق أي شيء عن مستقبل سورية المحتمل. إنه محاولة لقول شيء عن حاضرها. أما المستقبل فليس ثمة ما يسوّغ الاعتقاد بأنه سيكون مختلفا كثيرا عن أوضاع الدول العربية المجاورة.

كما لا يقول أي شيء عن الدول العربية المشار إليها، وإن كان يقول شيئا عن شحوب صورتها في مخيلة سوريين عديدين. وهو شحوب لا يعني بحال أن صورة سورية أجمل من نظيراتها العربيات، ولا يطعن في دلالته افتقاره المحتمل إلى الدقة أو الإنصاف.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)