لعل أحد أسباب انتعاش الفكر الليبيرالي في سورية أن القوى المعارضة التي حملت لواء التغيير الديموقراطي لم تستطع الخروج من شرنقة مفاهيمها العتيقة، فالعالم تغير بصورة متسارعة ولا يزال معظم الطيف الديموقراطي أسير ثوابت وأصول، محاصراً بالعقائد والشعارات القديمة, ويتعامل مع مهمات المجتمع الملحة على أنها أمر يمكن قبوله أو رفضه بناء على المرجعية الأيديولوجية.

وتشهد سورية اليوم مداً لافتاً للأفكار الليبيرالية وإعلانات متنوعة لأحزاب وتجمعات تبنت, صراحة، الليبيرالية السياسية والاقتصاد الحر، منها مشروع الوثيقة التأسيسية التي أصدرتها مجموعة من رجال الأعمال والتكنوقراط في مدينة حلب تحت اسم «تحالف الوطنيين الأحرار»، وتلاها إشهار ولادة «التجمع الديموقراطي الحر» الذي ضم أيضاً مثقفين وتجاراً وصناعيين في دمشق، ثم دعوة بعض الناشطين لاجتماع تحضيري في منطقة الزبداني لإعلان تأسيس «الحزب الديموقراطي الليبرالي»، لم تكلل بالنجاح بعدما منعت أكثرية المشاركين من الوصول الى مكان اللقاء. والأهم أن تترافق هذه المبادرات مع ارتفاع حرارة الحوارات وتواتر السجالات على صفحات بعض جرائد المعارضة ومواقع الانترنت, والتي شاركت فيها نخبة من المثقفين والكوادر السياسية, حول ماهية الخيار الليبيرالي والمسافة التي تفصله عن مفهومي الديموقراطية والعلمانية وحول مدى توافق مهمات قوى المعارضة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي مع الفكر الليبيرالي.

والليبيرالية ليست ظاهرة طارئة على المجتمع السوري، وإن كانت غابت طويلاً عنه بعد سيادة الإيديولوجيات القومية والاشتراكية وما عاناه الليبيراليون من اضطهاد. فقد شهدت البلاد بعد الاستقلال وقبل استلام حزب البعث للسلطة حضوراً لافتاً للأفكار الليبرالية انعكس سياسياً بتيارين كبيرين عرفا باسم «حزب الشعب» و»الحزب الوطني», ضم الأول رموز الرأسمالية الصناعية والتجارية في مدن حلب وحمص وحماه، فيما التحق بالثاني معظم الشخصيات البرجوازية الدمشقية ورجال الأعمال، ناهيك عن أن تلك المناخات شهدت ظهور شخصيات ليببرالية مستقلة ومتميزة أمثال هاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم وغيرهم، ما شجع بعضهم على القول إن الحضور الراهن للفكر الليبيرالي ليس غيمة في سماء صافية بل الوريث الطبيعي للظواهر الليبيرالية القديمة، دشن انطلاقته منذ سنوات وفي شكل وملموس، النائب السجين رياض سيف من خلال منتداه الثقافي.

وإذا نهضت الليبرالية تاريخياً من حقل الاقتصاد دفاعاً عن الحرية الفردية وحرية النشاط الاقتصادي للبشر، ودعت الى فكرة السوق الحرة والحد من تدخل الدولة في العلاقات الاقتصادية, وسميت مجازاً الليبرالية الاقتصادية، فأنها وفي سياق تطورها التاريخي الملموس وربطاً بتقدم حراك الطبقات المظلومة ودفاعها عن حقوقها, أنتجت نظاماً سياسياً محايثاً أطلق عليه بعضهم تعبير الليبيرالية السياسية وتميز بفصل الدين عن الدولة واحترام الحريات والتعددية وتداول السلطة وحقوق الانسان، وبات المفهوم الليبيرالي الراهن يحمل كلا الوجهين الاقتصادي والسياسي على حد سواء, ويجمع بين الدعوة للاقتصاد الحر والانتصار لقيم الديمقراطية والتعددية.

لكن يبدو أن هذه الرؤية لم تكن واضحة أو ناضجة بما فيه الكفاية عند معظم التيارات الليبيرالية التي تشكلت حديثاً في سورية، ومن قراءة أولية لاطروحاتها وبرامجها المعلنة يمكن أن نكتشف أنها ليست كلاً منسجماً، وتفترق بعد اسمها الليبيرالي العام في الكثير الخصائص والصفات، خصوصاً لجهة طبيعة الأهداف المتوخاة وأسباب التشكل وملامحه...

أولاً، لا يجمع هذه التيارات دافع مشترك من تبني الرؤية الليبيرالية، منها من ركز على الوجه الاقتصادي للفكر الليبيرالي داعياً الى إزالة كل الحواجز القانونية والإدارية التي تعرقل الاستثمار، وأضفى على خطابه مطالب تبدو في التنفيذ شبه مستحيلة، كالنكوص نحو المرحلة العتيقة والبدائية من تطور البلاد الرأسمالي بالرجوع عن قرارات التأميم والإصلاح الزراعي وإعادة الملكيات الصناعية والزراعية لأصحابها، ومنها من غلب على مشروعه الجانب السياسي، كرد فعل طبيعي ومفسر على تاريخ طويل من السيطرة الشمولية وتغييب الحريات، وبدت أفكاره غنية بالمهمات الديمقراطية واحترام التعددية السياسية واليات الانتخاب، ويمكن أن نميز في هذا الإهاب دعاة للحرية صنفوا أنفسهم تحت عنوان «الليبرالية الثقافية» وأعلنوا أن غرضهم هو إشاعة أفكار المواطنة ومفاهيم احترام الحريات الفردية والحقوقية.

ثانياً، صحيح أن الشرائح الاجتماعية التي تتنطح اليوم لحمل لواء الليبيرالية في سورية تنتمي في غالبيتها الى قوى رأس المال، لكن يمكن القول أنه لا توجد اليوم طبقة متبلورة مؤهلة لحمل الفكر الليبيرالي، بل هناك جماعات وأفراد، بعضهم جاء ليعبر عضوياً عن مصالح البرجوازية العتيقة، هذه المرة بالأصالة عن نفسها بعدما غاب ممثلوها الحقيقيون لعقود من السنين عن لعب دور سياسي مباشر وارتضوا الدفاع عن مصالحهم بالوكالة عبر التعاون مع أحزاب وشخصيات سياسية تحت يافطة المستقلين، وتدل على هذه الحقيقة مشاركة شخصيات من رجال الأعمال ترتبط أسماؤهم بأسر سورية عريقة في ميادين الصناعة والتجارة. فيما جاء بعضهم الآخر ليعبر عن مصالح ما يسمى البرجوازية الجديدة التي نشأت بفضل ما راكمته امتيازاتها السياسية من رؤوس أموال واغتنت من سيطرتها على مواقع المسؤولية ونهبها لمؤسسات الدولة والقطاع العام، فتعاظم وجودها وكبر طموحها للتحرر من إسار حزب البعث والتعبير عن ذاتها بما يتناسب مع ازدياد وزنها الاقتصادي ما يعني أنها تحتاج اليوم الى ممثل سياسي جديد لمصالحها التي باتت تتعارض مع الأهداف والشعارات المعلنة للحزب الحاكم، لكن مع مراعاة أن لا تفضي دعايتها للفكر الليبيرالي الى الإخلال بالشروط والتوازنات التي أنجبتها ولا تزال تستند اليها.

ثالثاً، أخذت هذه الموجة زخمها من المناخ السياسي العالمي الراهن الذي فتح على أهمية الديمقراطية والاقتصاد الحر مع النجاح الذي حققته النظم الليبيرالية الغربية في النمو والتطور مقابل تأزم ما كان يسمى الدول الاشتراكية وانهيارها، وجاءت أشبه برد صريح على ثقافة الوصاية السائدة في حياتنا السياسية، بدليل تركيز دعاتها على أهمية احترام العقل والجهد الإنساني الذي بلغ من النضج قدراً يؤهله أن يرعى مصالحه من دون وصاية من أحد. كما استمدت مزيداً من القوة من النتائج المرة والحصاد الهزيل لتجارب مجتمعاتنا العربية، وكأنها محاولة للتأكيد على مشروعية تجريب لون جديد من الحكم بعدما وصلت الألوان الأخرى من دينية وقومية وماركسية الى طريق مسدودة وفشلت في تحقيق الأهداف المتوخاة. فالشعارات والعقائد الكبيرة أنجبت نتائج هزيلة, فلا النهضة الموعودة حصلت، ولا الأرض تحررت ولا الوحدة العربية تحققت ولا خطط التنمية نجحت ولا وصل الانسان الى مجتمع العدالة والحرية والكرامة.

رابعاً، ثمة غموض لافت عند معظم هذه التيارات في تقديم إجابات واضحة حول علاقتها مع الليبيرالية الجديدة التي تسود المجتمعات الرأسمالية المتطورة والتي أفرزت أشد الحكومات محافظة وتعنتاً، وأيضاً حول تصوراتها عن العلاقة المرجوة بين الاقتصاد الحر الذي تدعو إليه ونظام العولمة، وتحديداً مستلزمات وشروط اندماجها في الاقتصاد الكوني، كما ثمة التباسات حقيقية في موقفها من الأوضاع الاجتماعية السورية في حال فك أسر الاقتصاد وتحررت الدولة من أعبائها ووأخضعت تالياً الحاجات الحيوية للمواطنين السوريين لفوضى السوق وقانون العرض والطلب، بما في ذلك عدم وضوح رؤيتها في التعاطي مع مئات الألوف من الفقراء والمعوزين الذين لا بد أن يلفظهم قطاع الدولة الخاسر ويصبحون نهباً للبطالة أو لأعمال دونية لا تليق بكرامة المواطن وإنسانيته.

خامساًً، يبدو أن بعض هذه التيارات لا يزال يحمل الأمراض ذاتها التي تعرفها المعارضة السورية، إن لجهة جرأته في استنساخ التجربة الليبيرالية عن الغرب وتقديسها كما استنسخت التجربة الاشتراكية، أو لجهة التسرع في إعلان نفسه مخلصاً وبديلاً، مستسهلاً إقصاء التيارات والقوى الأخرى، قومية أو دينية أو ماركسية، من عملية التغيير. فأي بداية موفقة ديمقراطياً حين تطرح بعض التيارات الليبيرالية أنها الممثل الشرعي للأفكار الديمقراطية، وتعتبر نفسها البلسم الوحيد الذي طال انتظاره لإخراج البلاد من أزماتها ومعالجة أمراضها المزمنة؟

أخيراً تعترض التيار الليبرالي في سورية وفرص تطوره، تحديات ومعوقات كثيرة، فثمة قلق وتخوف من أن تفضي الحريات الفردية الى تفكيك مجتمع أدمن دور الدولة التدخلي في كل تفاصيل الحياة، وثمة أحاسيس وطنية وقومية وحال من التدين الشعبي لا تزال تعشش في المجتمع وتتعارض مع مسلمات الفكر الليبرالي، ومع ذلك تجدر الإشارة الى أن ردود الأفعال الايجابية، سياسياً وثقافياً، تجاه ما يطرح من أفكار ليبرالية والتفاعلات الجدية حولها وحول ما ظهر من تكوينات سياسية جديدة حملت الفكر الحر، تشير الى مدى انتشار الهم الديمقراطي في المجتمع السوري والى ارتقاء وعي الناس حول ضرورة احترام التعددية والتنوع وتالياً نشوء مثل هذه الظواهر، بصفتها أحد الافرازات الطبيعية لتكوينات المجتمع السوري وجناحاً من أجنحة التغيير الديمقراطي وقواه، ما يبشر بتجاوز الأساليب البالية في النظر الى الليبيرالية بصفتها تياراً مارقاً ومنبوذاً، يقابل بالإدانة المسبقة وشتى الاتهامات بالعمالة، الأساليب ذاتها التي ساهمت في ما مضى الى جانب عوامل أخرى في هزيمة التيارات الليبيرالية القديمة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)