يوم واحد قبل تقرير ميلس كان كافيا لخلق انطباعا بأن الولايات المتحدة ليست مستعدة لانتظار الكثير، أو للتعامل بهدوء مع مسألة شائكة داخل الشرق الأوسط. وبالطبع فإن الأخطر فيما سيحدث ليس كشف الحقيقة في اغتيال رفيق الحريري" إنما التجاوز الذي يتم منذ تكليف لجنة التحقيق باتجاه إقرار واقع سياسي. فالموضوع الشائك لا يتعلق بملابسات الحادثة أو حتى بالقضية اللبنانية إنما بالأجندة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عموما.

وسيناريو اليوم يذكرنا إلى حد بعيد بعمليات الاستباق السياسي (على سياق الحرب الاستباقية) الذي سبقت احتلال العراق، لكن ما يتم اليوم هو التعامل مع نتائج الفوضى في العراق وجعل قضية الاحتلال مادة تترسخ في الذاكرة السياسية، حيث يمكن اعتبارها مرجعا لدى المحللين عند الحديث عن نتائج التقرير على الصعيد السوري. وما يحدث اليوم لا يستدعي من سورية تقديم صك البراءة إنما إعادة الحسابات مع إدارة أمريكية تتعامل في الشرق الأوسط على أنه "جغرافية" حيوية لها، ومسألة الحرب والسلام بالنسبة لها خاضعة لمعايير جديدة متجذرة بعمليات تصدير العنف، تحت غطاء سياسي من "محاربة التطرف" أو جعل "العالم أكثر أمنا".

ويبدو أن نتائج تقرير ميلس لم تعد حاسمة بالنسبة للسياسة الأمريكية، لأنها وعلى لسان وزيرة خارجيتها أكدت أن هناك تحركا باتجاه الضغط على سورية، ولكن رايس ركزت على أن هذا الضغط يخص العراق. والمؤشر الأول أن تقرير لجنة التحقيق أصبح أمرا واقعا وليست الولايات المتحدة مضطرة لانتظاره فالموضوع الرئيس بالنسبة لها هو الترتيبات التي أوجدتها وعليها أن تتكرس وتستمر من العراق نحو "شرق أوسطي كبير".

المقلق اليوم على الصعيد الداخلي السوري أن الولايات المتحدة أنشأت هوامش خطرة داخل كافة المفاهيم المتعلقة بالسيادة الوطنية. فهي مصرة على تطبيق الديمقراطية ومحاكمة صدام، في وقت تخدث مجزرة حقيقة في العراق، وتهدد الديمقراطية عبر الدستور والأحزاب المتصارعة وحدة العراق ومفاهيم الدولة الحديثة ... فهل بالفعل يمكن أن تقود الديمقراطية إلى حرب أهلية؟!!

ربما لا يتعلق الحدث اليوم بالديمقراطية، بل بالسيل الجارف الذي هدد كل القيم التي نتعامل معها، وجعلنا أمام ساحة سياسية واجتماعية قادرة على الانجراف وسط ضغط أمريكي فاضح. كما تكسرت معظم النماذج التي يمكن الاستناد إليها لخلق وعي مقارن بمسألة المفاهيم السياسية ... لكن الولايات المتحدة على ما يبدو مستمرة بـ"الاستباق السياسي". وهذا التكتيك على تجدي معه المناورة .. إنه يحتاج اجتماعيا بالدرجة الأولى لتحقيق التوازن من جديد وعدم الاكتفاء بطرح الشعارات بعد أن التبست مفاهيمها نتيجة "الفوضى البناءة".