سؤال مركزي يطرح نفسه بالنسبة للعلاقات السورية الأميركية، وهو ماذا بعد كل هذا الضغط على دمشق؟ السؤال ليس يتيما، إنه ابن شرعي لما يحدث من تجاذبات في الولايات المتحدة حاليا بين تيارات عديدة، والأهم أنه يندرج في إطار "الصفقة"،

والصفقة هنا ليست تلك التي يتوهمها بعض وسائل الإعلام أو يحاول تسريبها لإفقاد سوريا مصداقيتها.

إنها الصفقة الداخلية الأميركية بين المحافظين القدامى جيل بوش الأب وبوش الابن لتقليم أظافر المحافظين الجدد والتوصل إلى "فك اشتباك" مع العراقيين، ولا يعني هذا بالضرورة الانسحاب من العراق، بل ربما الانسحاب إلى القواعد المعدة، فضلا عن أن هنالك من يؤكد أن الانسحاب إلى الكويت أو إلى الأردن ليس اليوم مأمونا لو اتخذ الأميركيون قرارا في هذا الاتجاه، وهو ليس مطروحا.

المحافظون القدامى العاقلون قد عقدوا صفقة مع بوش الابن تقتضي إذن تخفيض درجة دور المحافظين الجدد والابتعاد -بالتالي- عن نظريات "الفوضى الخلاقة"، والتوقف عن المغامرات غير المحسوبة، لكن إخراج هذا الاتفاق هو المسألة، خاصة أن بعض المحافظين الجدد يريدون اتباع سياسة "كمبوديا" للهروب إلى الأمام من تبعات الفوضى في العراق بفتح "الضربات الاستباقية" و"ضربات مكافحة الإرهاب" ضد سوريا، تماما كما فعلت الولايات المتحدة مع فيتنام عندما ضاقت بها السبل هناك فقصفت كمبوديا وحملتها المسؤولية.

والتمهيد لذلك واضح في التعليمات المعطاة للملحق العسكري الأميركي في دمشق بعدم الذهاب العلني مع الدبلوماسيين في الزيارة التي أمنتها سوريا لهم لرؤية ما تم إنجازه على الحدود السورية العراقية، كي لا يسجل على السفارة وبالتالي على وزارة الدفاع فالخارجية أن ثمة ما تم إنجازه هناك، أي إبقاء سوريا ككمبوديا افتراضية، يمكن تحويلها إلى واقع عند الحاجة الاضطرارية.

والسيناريو يتمثل في ضربات عن بعد في إطار سياسة ملاحقة ومكافحة الإرهاب، وهو لا يحتاج برأيهم إلى العودة إلى الكونغرس، ولا يحتاج إلى حملة علاقات عامة في الرأي العام الأميركي، لأن المستند هو حملة مكافحة الإرهاب، لكن هذا ليس رأي المحافظين القدامى بشهادة قادة عسكريين أميركان سابقين مثل الجنرال وليام أودوم وجزء مهم –ولكن ليس أكثريا- في الكونغرس، والأهم أن المحافظين الجدد منقسمون حوله.

والمسألة مفتوحة على ما سيحدث في واشنطن من نتائج للصراع الدائر حاليا ومحوره وجه هام من وجوه المحافظين الجدد، وهو ديك تشيني، نائب الرئيس.

ففي تقرير صدر عن "إكزكتف إنتلجنس ريفيو" ثمة ما يفيد بأنه عندما تكتب صحيفة واشنطن بوست، وهي صحيفة المؤسسة الحاكمة عبر العقود الماضية، بنفسها عن احتمال تورط مكتب نائب الرئيس تشيني في فضيحة تسريب اسم العميلة السرية للمخابرات المركزية الأميركية لوسائل الإعلام مما يعتبر جريمة خيانة عظمى في واقع الحال، فإنه مما يمكن القول إن المعادلة الصفقة قد دخلت حيز التنفيذ.

وحسب المصدر نفسه فقد بدأت الحملة على النحو التالي: في يوم 29 سبتمبر/ أيلول الماضي شارك الجنرال أودوم (Gen. William Odom)، وهو الرئيس السابق لوكالة الأمن القومي الأميركية، مع النائب الجمهوري في الكونغرس والتر جونز والنائب الديمقراطي نيل آبركرومبي وأعضاء آخرين في مجلس النواب في مؤتمر صحفي دعما لمشروع قرارهم الداعي إلى الانسحاب من العراق، ووصف أودوم غزو العراق على أنه "أكبر كارثة إستراتيجية في تاريخ الولايات المتحدة"، "ولا بد من تحالف واسع مع الأوربيين وحلفاء الولايات المتحدة في آسيا لوضع الأمور في نصابها من جديد والشرط الأساس لبناء عملية إستراتيجية جادة لتثبيت الاستقرار في المنطقة هو الانسحاب والاعتراف بارتكاب الخطأ".

ويفند أودوم مقولات إدارة بوش وعلى سبيل المثال التهديد بوقوع حرب أهلية إذا انسحبت القوات الأميركية وأن ذلك سيشجع الإرهابيين، بالرد بأن هناك فعلا حربا أهلية اليوم، "فقد قتل المسلحون المناهضون للقوات الأميركية عددا من العراقيين أكبر بكثير من القتلى من الأميركان"، "وهذه حرب أهلية، فلقد خلقنا الحرب الأهلية عندما غزونا البلد"، "لن يمكننا أن نمنع حربا أهلية ببقائنا"، "وقد تواجه القوات البريطانية والأميركية انتفاضة شيعية مسلحة في جنوب ووسط العراق إذا مضت إدارة بوش قدما في خططهم لمهاجمة إيران الشيعية عسكريا".

ردة الفعل المؤسساتية قد جاءت هذه المرة من داخل مؤسسات الدولة وبطريقة قانونية، حيث صدرت إدانات بحق الجاسوس الإسرائيلي في وزارة الدفاع لاري فرانكلين واثنين من كبار مسؤولي لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية "أيباك" بتهمة تسريب معلومات سرية إلى إسرائيل، وفرانكلين، على العكس من الجاسوس جوناثان بولارد، اعترف بالجرم وقبل بالتعاون مع المدعي العام لكشف المزيد من المعلومات والأشخاص المتورطين وهي قد تكون شبكة واسعة من العملاء داخل وزارة الدفاع وإدارة بوش.

وفي سبتمبر/ أيلول الماضي صدرت إدانتان بحق النائب الجمهوري من ولاية تكساس توم ديلاي رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأميركي وهو من أقرب المقربين إلى تشيني وذلك مرتين: مرة يوم 28 سبتمبر/ أيلول، وثانية يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول بتهم احتيال مالي مرتبطة بتسلمه تبرعات من جهات مرتبطة بمافيا القمار وغسل الأموال وتمريرها إلى حملته وحملات مرشحين جمهوريين آخرين، وأجبر على التخلي عن موقعه في الكونغرس، وتمت إدانة مجموعة مهمة من ممولي ديلاي وحملات بوش مثل جاك أبراموف الذي أدين مؤخرا في عملية نصب واحتيال في محاولته السيطرة على كازينو وسفينة القمار "صن كروز" في ميامي، وربما قد يدان في جريمة قتل صاحب الكازينو الأصلي كونستانتينوس باوليس الذي قتل بعد رفضه عرض أبراموف للسيطرة عليها.

الضربة القاضية في الإدارة وتتصل بعلاقة نائب الرئيس تشيني بقضية تسريب اسم العميلة السرية لوكالة المخابرات الأميركية المركزية فاليري بلايم أو فاليري ولسون زوجة الدبلوماسي الأميركي جو ولسون إلى الصحافة، وفي عرف المجتمع السياسي الأميركي والقانون يعتبر هذا الفعل خيانة عظمى بحق الأمن القومي للولايات المتحدة.

وكانت جهة أو جهات ما في البيت الأبيض قد سربت اسمها وطبيعة عملها في المخابرات إلى صحافيين في يونيو/ حزيران 2003، وقيل في البداية إن ذلك كان بغرض الانتقام من زوجها جو ولسون الذي فند علنا في صحيفة نيويورك تايمز في يوليو/ تموز 2003، أي بعد غزو العراق بأشهر قليلة أكاذيب إدارة بوش حول استيراد العراق لمواد نووية خام من النيجر لصنع قنابل نووية.

وذكر ولسون في مقالته تلك أنه هو الذي تم تكليفه في العام 2002 من قبل المخابرات الأميركية بالسفر إلى النيجر للتأكد من صحة وثائق اتضح أنها مزورة تقول إن العراق استورد كميات كبيرة من الكعكة الصفراء من النيجر.

وعاد ولسون من النيجر وأخبر المخابرات المركزية أن لا صحة لتلك الادعاءات إطلاقا، لكن الإدارة الأميركية تجاهلت تقريره ومضت قدما في أكاذيبها حتى تاريخ الغزو، ويبدو أن البيت الأبيض كان يحضر للرد على ولسون حتى قبل أن ينشر مقالته في الصحف.

لقد قام المحقق الخاص في القضية باتريك فيتزغيرالد بالتحقيق في هذا الأمر لشهور، ودخلت الصحفية في التايمز جوديث ميلر السجن لفترة 85 يوما لرفضها الإفصاح عمن في البيت الأبيض زودها بالتسريب عن فاليري بلايم، وقد دفعت ثمنا لحمايتها الأشخاص المتهمين في إدارة بوش، لكن أطلق سراحها في آخر سبتمبر/ أيلول بشرط أن تدلي بمعلومات لم تذكرها من قبل عن الشخص المعني في البيت الأبيض.

هذا الشخص هو لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس ديك تشيني وأحد أهم عتاة المحافظين الجدد، وهو واحد من الذين ينظرون لغزو سوريا.

وقد ثبت أيضا أن مستشار الرئيس بوش الأول كارل روف من المحافظين الجدد أيضا هو الآخر قد سرب معلومات للصحفيين عن فاليري بلايم.

مجلة "إكزكتف إنتلجنس ريفيو" أشارت منذ البداية إلى تورط ديك تشيني شخصيا ومساعده ليبي في الموضوع عبر ما يسمى "مجموعة العراق" وهي المجموعة المسؤولة أولا وآخرا عن التخطيط لغزو العراق وتنفيذه، وعمل كل شيء غير قانوني للوصول إلى ذلك الهدف.

وتتألف من لويس ليبي مستشار تشيني الأول وكارل روف مستشار بوش الرئيسي وصاحب نظرية "العيش في خطر حتى يعاد انتخاب بوش مرة ثانية" بالإضافة إلى رئيس موظفي البيت الأبيض أندرو كارد ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس ونائبها ستيفن هادلي والمستشارة القانونية للبيت الأبيض كارين هيوز، ونصف دزينة من موظفي البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي.

وثمة مراهنة على إجبار تشيني على الاستقالة ولكن هذا الرهان ربما لن يكون صورة المخرج النهائية تماما، فالصفقة أكبر من هذا، وقد يهرب تشيني ورمسفيلد إلى الأمام نحو كمبوديا، خاصة أنهم يسربون دراسات منذ أيام عن ربط سوريا بكمبوديا، فإن تشيني يحاول جاهدا هو وأعوانه من المحافظين الجدد التخطيط لهجوم عسكري على سوريا أو إيران للتغطية على مأزقه الشخصي وعلى الهزيمة العسكرية في العراق، إذ يلاحظ في ريزون أن ميشيل يونغ قد كتب في 11/8/2005 محذرا من أن التصريحات التي أدلى بها المحافظون أصبحت أكثر تحديدا في اتجاه كمبودة سوريا.

فمنذ منتصف الشهر الثامن 2005 حذر وزير الدفاع دونالد رمسفيلد خلال الكلمة التي أكد فيها على أن سوريا "تمول دون أدنى شك التمرد في العراق"، وفي اليوم نفسه أتى جون بولتون، سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وهو من عتاة المحافظين الجدد على ذكر سوريا وحث جميع الدول على"تنفيذ جميع التزاماتهم في إيقاف تدفق الأموال والأسلحة على الإرهابيين، خاصة لإيران وسوريا"، صحيح أن تلك التصريحات لم تكن تعني الحرب، ولكنها كانت كلمات قتال.

ويرى يونغ أنه وقد باتوا ينظرون إلى أنه وباعتبار أن الولايات المتحدة لا تملك الوسائل ولا السلاح الكافي لكي تجابه إيران عسكريا، لا في منطقة الحدود ولا غيرها، لذلك فإنها قد تفضل أن تقوم بضرب سوريا بدلا من ذلك.

فهل يمكن العودة إلى كمبودة سورية كخيار، إنه سؤال مطروح لكنه ليس كافيا، لتوصيف الحالة... ثمة وضع متحرك بصورة لا سابق له والاحتمالات مفتوحة، ولا يمكن لأي منا ضبطها أو الادعاء بحصرها.

يلعب السوريون لعبة الوقت، يتجنبون اليوم لعبة "حافة الهاوية" لكنهم في نفس الوقت يلعبون لعبة عض الأصابع.

يعرفون أن ثمة مأزقا أميركيا ويدركون أن ثمة تناقضا في القرار الأميركي، لا يتنازلون، لكنهم يجربون ألا يكونوا تحصيل حاصل.

يعرفون أن اللعبة خطرة، وهي مرتبطة بما يحدث هناك في واشنطن إلى هذا الحد أو ذاك، لكنهم دون عصا ميليس يملكون هامشا يمكن استخدامه في لعبة الوقت، ولكنهم ليسوا مغامرين، ففي اللحظة التي تحتاج إلى الانسحاب من اللعبة ينسحبون، ويقدرون الموازنة بين الربح والخسارة، لأن الهدف هو البقاء في دورهم الإقليمي لأنه من دونه لا عودة لأرضهم ولا استقرار في بلادهم.

الخيار صعب ويبدو كمن يسير على حد الشفرة، ولكنه أحد خيارات السياسة... كصراع، أوليست السياسة صراعا؟

مصادر
الجزيرة نت (قطر)