إذا كان تقرير ديتليف ميليس <<احترافياً ودقيقاً ومهنياً>> كما يقول المدافعون عنه فإن النظام السوري سيواجه مشكلة. إلا أن هذه المشكلة نفسها ستكون أكبر إذا كان التقرير نفسه غير احترافي ولا دقيق ولا مهني، كما يقول المسؤولون السوريون.

صدر التقرير. لم يكلف قادة ومسؤولون غربيون أنفسهم عناء التظاهر بقراءته. غير أن التصريحات انهالت تباعاً. وجدوا في فرنسا أنه <<يتحلى بدرجة احتراف مثالية، وهو مبني على معلومات جرى التحقق منها واستجوابات تمت بطريقة علمية>>. إن هذا هو <<العمل الذي كانت فرنسا تتمنى أن يقوم به أي قاض>>. فالتقرير <<غير قابل لأي نقد من الناحية المهنية، وأي جدل بشأنه غير مقبول وكذلك أي مناورة سياسية>>.

أصيب جورج بوش ب<<قلق عظيم>> لأنه وجد التقرير <<يقول بقوة إن الاغتيال الذي له دافع سياسي لم يكن ليحصل من دون تورط سوري>>. دعا إلى <<النظر إلى الأمر بجدية والرد بشكل مناسب>>. كوندليسا رايس انتابها القلق أيضاً ولكنه <<قلق عميق>> تمييزاً له عن القلق الرئاسي. اعترفت بأنها لم تجرِ سوى <<قراءة أولية>> للتقرير ولكنها استنتجت أن بلادها <<لن تقبل فكرة أن يكون جهاز من أجهزة دولة معينة مشاركاً أو متورطاً في اغتيال رئيس وزراء سابق في دولة أخرى>> (وزير خارجية النروج كان سيكون أكثر تحفظاً في حديثه عن الاغتيالات خارج الحدود). أما جون بولتون فتناسى احتقاره المديد للأمم المتحدة ومؤسساتها ولجانها ليرى أنه أمام <<وثيقة تاريخية>> وأنه <<يتضمن أنباءً دراماتيكية عن مدى التورط السوري على أعلى المستويات>>. أما حق المتهم في الدفاع عن النفس بصفته بريئاً إلى أن تثبت الإدانة فلا مكان له في عُرف بولتون: <<إن الاحتجاجات السورية سخيفة>>.

أثار التقرير <<قلق>> جاك سترو. لقد فوجئ ممثل الإمبراطورية السابقة ب<<الغطرسة>> التي قادت <<أشخاصاً قريبين من قمة النظام السوري ليكونوا ضالعين>>. إن القصة <<غير سارة وسيأخذها المجتمع الدولي في شكل جدي جداً>>. أما الحل في رأي سترو فهو <<أن على السوريين أن يتغيّروا. أن يتغيّروا كثيراً>>.

الرد السوري على التقرير لم يتأخر هو أيضاً. وجد أنه لم يورد
<<الأدلة والشواهد على الاستنتاج المنافي للحقيقة>> واستخدم روايات لشخصيات <<معادية>> بما يشير <<إلى وجود نية مبيتة مسبقة لتسييس التحقيق وتوجيهه في اتجاه معيّن يخدم سياسة الضغوط على سوريا>>. إنه تقرير <<سياسي بامتياز يتنافى مع أبسط شروط ووسائل وأسلوب التحقيق في قضية كبيرة ولا يمكن لمحكمة نزيهة أن تقبل بتقرير كهذا يستند إلى مجرد أقوال>>. إنه، أيضاً، تقرير <<منحاز وغير عادل، مليء بالشائعات السياسية والقيل والقال ولا أثر فيه لأي دليل يمكن أن تقبله أي محكمة>>. لقد <<ابتعد التقرير عن الحقيقة بدل جلائها>>.

وقال مسؤول سوري إنه <<مصدوم ويشعر بالدهشة>> وأضاف <<نحن محبطون. كيف يفعلون هذا بنا دون أي دليل واضح>>.
وعقد المستشار القانوني رياض الداودي مؤتمراً صحافياً أمس حاول فيه <<تفنيد>> التقرير وكشف تناقضاته وأوجه تقصيره.
التناقض صارخ بين نظرتين إلى التقرير. غير أن المشكلة واقعة بغض النظر عما إذا كانت هذه النظرة أو تلك أقرب إلى الحقيقة.
إن نجاح سوريا في تقديم مطالعة نقدية للتقرير، في ظل التقييم الإيجابي له لدى الآخرين، يفترض أن يقود إلى استنتاج مؤداه أن الوضع خطير. أي إن هناك علاقة متوازية بين كون التقرير غير مهني وبين درجة الخطر الذي تتعرّض إليه دمشق. كلما أمعن التقرير في تحريف الحقائق كان يقدم مؤشراً إلى أن مادحيه ينوون شراً. بكلام آخر يفترض بالقيادة السورية أن تفكّر على الشكل التالي: إن ابتعاد التقرير عن كشف حقيقة الجريمة لا يقود نحو ضلال بل نحو حقيقة أخرى تخص جذرية ما تتعرض إليه سوريا.

إن تهمة <<التسييس>>، كما ترد على ألسنة مسؤولين سوريين، لا تعدو كونها <<شتيمة أخلاقية>> في حين أن المطلوب شيء آخر تماماً. ف<<التسييس>> يعني أن هناك قراراً أو خطة أو استراتيجية. وليس الرد على ذلك كشف التناقضات التي أوردها المحقق الدولي. إن الرد يكون سياسياً أو لا يكون أبداً.

يحق لسوريا، طبعاً، أن تدافع عن نفسها. ومن واجبها أن تقول ما تريد في حق التقرير واللجنة التي وضعته. وكان في إمكان رياض الداودي أن يذهب أبعد في المهمة التي أداها. ولكن من غير الجائز نشوء أي وهم يعتقد بأن إظهار أي تهافت في التقرير كاف لجعل نتائجه متهافتة.

إن مناظرة بين ديتليف ميليس ورياض الداودي مستحبة. لكن الموضوع هو، إلى حد كبير، في مكان آخر. إنه في السياسة. وهو يكون في السياسة أكثر بقدر ما تنسب سوريا إلى التقرير <<تسييساً>>. ويعني ما تقدم أن على دمشق أن تدخل في مناظرة مع جورج بوش وجاك شيراك وطوني بلير. هؤلاء ليسوا قضاة. إنهم قادة يملكون أدوات عمل جبارة. وهم يعتبرون، زوراً أو صدقاً، أن التقرير قاطع في وضوحه وصحته وسيبنون سياستهم على أساس هذا الاعتقاد.

إن سوريا موضوعة أمام خيار سياسي لا يشكل السجال القانوني مع التقرير فيه سوى الجزء البسيط وربما الأسهل. وليس واضحاً على الإطلاق، حتى الآن على الأقل، طبيعة الوجهة التي ستسلكها دمشق والتي ستحدد ردها على السؤال الفعلي المطروح عليها.

ربما كان على القيادة السورية أن تتصرف وفق القاعدة التالية: بقدر ما تتصرف على أن منسوب عدم الدقة مرتفع في التقرير يفترض فيها الاعتبار أن الخطر كبير. لها، بعد ذلك، أن تساوم أو أن تقاوم. ولكن عليها أن تكف عن ارتكاب الأخطاء إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً...

مصادر
السفير (لبنان)