ما جرى في نيويورك أمس من التباس حول تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس، ليس دليلا كافيا على ان المفاوضات بين واشنطن وباريس وبين دمشق كانت السبب في تعديله في اللحظة الاخيرة وشطب اسم شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، برغم صعوبة الافتراض ان القاضي الالماني ساذج الى هذا الحد بحيث يفترض ان مندوبي الدول ال15 الاعضاء في مجلس الامن كان يمكن ان يحفظوا السر او ان الامين العام للامم المتحدة كوفي أنان ومكتبه كان يستطيع أن يحمي النص..
لم يكن يتوقع من ميليس أن يكشف عن الجهة التي أوحت إليه بشطب ذلك الاسم من التقرير، مثلما لم يكن مستغربا لو ان هذا الوحي جاءه من انان بالذات الذي كان صادقا على الأرجح في نفيه التدخل في النص، برغم انه يستطيع ان يزعم الحرص على سمعة دولة عضو في الامم المتحدة وضعت في قفص الاتهام في جريمة دولية كبرى.
المؤكد ان أنان بريء من ذلك الالتباس كما ان ميليس كان مجرد ضحية جرى التلاعب به مما اضطره الى التعرض للجلد في مؤتمر صحافي علني في مبنى الامم المتحدة في نيويورك عقده بطلب شخصي من الامين العام لينفي وجود مؤامرة على تقريره تهدف الى إفراغه من اخطر مضامينه وأشدها حساسية.. لكنه لم يكن موفقا، ولم ينجح إلا في إثباتها بشكل غير مباشر، او على الاقل في تعميق الشكوك بوجودها.
لكن توصيف هذه المؤامرة يحتاج الى الكثير من الدقة، لانه ليس من السهل الاستنتاج انها موجهة ضد سوريا، كما لا يمكن الجزم في انها تخدمها.. وإن كان الاقرب الى المنطق والعقل هو أنها تشكل اداة من ادوات التفاوض الدولي المتواصل مع دمشق حول التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وحول الثمن السوري لهذه الغلطة الكبرى.
ومن دون ذكاء شديد، يمكن وضع السيناريو التالي للمؤامرة: ما إن خرج التقرير الاصلي من مكتب الامين العام او أُخرج عنوة قبل ان ينهي ميليس تعديلاته الاخيرة عليه، وصار بمتناول مندوبي الدول ال15 الاعضاء في مجلس الامن وربما في حوزة مندوبي الدول ال190 الاعضاء في الجمعية العامة، حتى عمد احد اعضاء البعثة الاميركية الى تسريبه الى صحيفة <<واشنطن بوست>> الاميركية التي وضعته على موقعها على الانترنت واحتفظت بالتعديلات الملونة بالأحمر..
حققت ال<<واشنطن بوست>> سبقا صحافيا لا جدال فيه، لكن الدبلوماسي الاميركي الذي زودها بالنص الاصلي والتعديلات الحمراء حقق أيضا سبقا سياسيا اهم بما لا يقاس: هو لم يكن يحاول المس بالأمين العام او بالمحقق الدولي بقدر ما كان يسعى إلى تعطيل المفاوضات معها، ولعله هو نفسه الذي سرب الى الصحافة قبل اسبوعين العرض الاميركي الاخير الى سوريا والذي عرف باسم <<صفقة القذافي>>..

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)