البحث اليوم ليس حقوقيا كما يبدو من التحرك الإعلامي السوري، فلجنة التحقيق التي ترأسها ميلس ليست مستعدة لمناظرة حقوقية، بينما ردود الفعل السياسية توحي بمحاسبة تاريخية لا ترتبط حكما باغتيال الرئيس رفيق الحريري. ومنذ اللحظات الأولى لعمليات الاغتيال كان واضحا أن الواقع الجديد هو "انقلاب" تاريخي وليس أحقادا صغيرة. وظهر المشهد السياسي مختلفا قبل عملية الاغتيال ثم اكتمل مع تنفيذ الجريمة التي ظهرت وكأنها القطعة الناقصة من سيناريو لا بد أن يكتمل.

هذه الصورة ليست بهدف دفع التهمة نحو جهة معينة، لأن الاغتيالات السياسية تبقى، حتى مع اكتشاف الجناة، موضوعا خلافيا لأبعد الحدود. لكنها تبين أن "المشهد السياسي" لم يقدم مؤشرات فقط بل أصبح جليا قبل عملية الاغتيال بفترة طويلة. واليوم يستعيد هذا السيناريو نفسه مع صدور تقرير ميلس الذي يقدم عتبة سورية جديدة ربما لا تعتمد على المناظرة الحقوقية بل على "فعل" الأزمة السياسية، لأن التحرك الدولي نادرا ما يستند في زمن الحرب الاستباقية على الأدلة، وهو يعتمد أساسا على "الشبهة" و "الظن" و "التقارير الظنية".

الخطر الذي نشهده اليوم يستند أساسا إلى مساحة الزيف التي انطلقت مع انقلاب المعادلة الإقليمية، فلم يعد بالضرورة إيضاح الحقائق أو استعمال البراهين والأدلة، بل الاعتراف بأن الضغوط هي بهدف "الضغط" وهو ما يلخص الأزمة. وسواء تم التعبير عن هذا الأمر بـ"تغيير السلوك" أو غيرها من المصطلحات لكنه يوضح أن التعامل الدولي لا يريد عمليات تستند إلى التوازن الدولي القديم، بل إلى الصيغ الذي ابتدعتها الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة.

والواضح أن الولايات المتحدة تطلب من سورية أكثر من مجرد "انكفاء ذاتي"، فهي تريد أيضا حذف المرحلة الماضية برمتها، والمقصود ليس مرحلة سياسية بل مساحة زمنية من الحراك السياسي. لذلك فإن التعامل القادم ربما لا ينحصر كما تقول التحليلات بين "المواجهة" أو "الانصياع" إنما مع رؤية التغير المفترض في المواجهة السياسية لاستحقاقات سورية في المرحلة الحالية.

ربما يرى البعض أن الخيارات محدودة، بينما تظهر نظرة سوداوية عند آخرين على الأخص بعد تجربة العراق، لكن الموضوع في سورية أعقد بكثير وهو لا يحتاج إلى تحليلات سياسية على سياق ما تقدمه الصحف من سيناريوهات، فالقادم هو في النهاية حلول تقنية سريعة لتجاوز الأزمة، والأهم أنها حلول تنبع من النظر إلى سورية داخل عالم متغير، وليس الانتظار مادمنا مستهدفين في ذاتنا.