لولا تقرير القاضي الألماني ديتليف ميليس عن أعمال لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي قدمه يوم الجمعة الماضي إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان ليُناقَش يوم غد (الثلاثاء) في مجلس الأمن الدولي، لما كنا سمعنا من المراجع السورية المسؤولة ما يمكن اعتماده كرأي إن لم يكن كرواية عن هذه الجريمة وعن <<دور النظام الأمني اللبناني السوري>> فيها، بل وحتى عن رأي القيادة السياسية في دمشق برفيق الحريري شاهداً ثم شهيداً.

على امتداد ثمانية أشهر طوال وعجاف ومثقلة بالحزن والقلق على المصير والخوف الشخصي، واضطراب العلاقة بل تدهورها بين البلدين الشقيقين كما لم يحدث عبر تاريخهما المشترك الطويل، لم يسمع اللبنانيون من دمشق ما يمكن اعتباره <<الرواية السورية>> لاغتيال الحريري.

وليس مبالغة أن يقال إن خسائر اللبنانيين والسوريين خلال هذا العام الأسود (إذا ما اعتبرنا بدايته غلطة التمديد) أكثر من أن تحصى وأخطر من أن تعوّض:

لقد خسرنا معاً العلاقات الطبيعية التي كانت تأخذ، بالضرورة، إلى التكامل، تحت الشعار المزوّر ل<<العلاقات المميزة>> التي أخذتها الممارسات الخاطئة إلى <<انفصال>> (بلغ في لحظات حدود <<القطيعة>>)، وهذه المرة وهذا أمر مخز بما يشبه القرار المشترك من قِبَل <<الشعبين>> أكثر منه من السلطتين..

يكفي أن نحصي كم سيارة وكم مواطناً يعبر من الاتجاهين بوابات <<الحدود>> التي كنا نفترضها <<شكلية>>... ويكفي أن نتلمس خوف الناس على جانبي تلك الحدود من مواصلة حياتهم اليومية بالتواصل المفتوح... بل لقد بات اعتبار من <<يدخل>> متسللاً، ومن يخرج <<مشبوهاً>>، وتجدد الحديث عن <<ترسيم الحدود>> وهو أمر كان منسياً منذ أربعين عاماً أو يزيد، وقد عاد اليوم مطلباً، يمهّد له ويعززه نشر الجيش على ذلك الخط الذي كان <<وهمياً>> إلى حد كبير.
؟ وخسرنا مع المصالح المشتركة العواطف الصادقة للأخوة. حلت محلها الشكوك والخوف واسترابة كل <<شقيق>> في الآخر... وها أن لبنان يكاد يتحول إلى متهم بالتآمر على سوريا عبر محاولة التفريق بين شعبها ونظامها، في حين أن اللبنانيين يتهمون <<الأجهزة السورية>> بالقتل المنظم والاغتيال السياسي و<<حماية النظام الأمني>> وتهديم مؤسساتهم، بعدما فشلت في إدامة هيمنتها عليهم..

ولعبة الانتقام يمكن أن تدمر كل الروابط الطبيعية، ولنستذكر للحظة نموذج العراق الكويت، قبل خمس عشرة سنة..

لقد أعطى المنطق الرسمي السوري لتقرير ميليس توصيفاً يجعله أقرب إلى الحكم المبرم، وبالتالي منطلقاً للتحريض على نظام الحكم في دمشق بقصد قلبه، في حين أن اللبنانيين ينظرون إليه كقرار ظني، يقبلون منه بعض ما تضمنه من وقائع ولا يقبلون استنتاجاته السياسية بغير نقاش، وينتظرون اكتمال التحقيق لإظهار الحقيقة بالدليل القاطع، ليكون لهم موقفهم الحاسم من المحرضين والمخططين والمنفذين.
للمناسبة: لم يسمع اللبنانيون حتى الآن رواية رسمية (وغير مسيسة) لهذه الجريمة النكراء. كل ما صدر عن دمشق منذ ظهيرة ذلك اليوم الأسود من شباط وحتى اليوم ردود فعل عصبية تتجاوز الوقائع إلى المطالعات السياسية المضادة لما يقال في شوارع بيروت، وليس فقط بلسان السياسيين فيها، أو اتهامات متأخرة لحلفاء قدامى بالخروج على الخط الوطني والقومي من أجل التآمر عليها مع الإدارة الأميركية والرئاسة الفرنسية والحكومة البريطانية وسائر الإمبرياليين.

إن القيادة السورية هي التي زادت من تسييس هذه الجريمة السياسية أولاً وأخيراً.

لم تُطلع هذه القيادة لا شعبها ولا اللبنانيين على معلوماتها بالوقائع حول هذه الجريمة.

.. علماً بأنها لا تستطيع التنصل من المسؤولية بالذريعة الواهية التي استخدمتها في الأيام الأولى من أنها لم تكن يومئذ تتحمّل كامل المسؤولية عن الأمن في بيروت بل تتحملها الأجهزة اللبنانية (التي يعرف القاصي والداني أنها كانت ترجع في أمورها كافة إلى المرجعية السورية).

ولقد كان إعلان تقرير ميليس فرصة أخيرة (؟) لأن يسمع اللبنانيون من القيادة السورية روايتها الكاملة للجريمة وبالوقائع الصلبة: مَن خطط ومَن حرّض ومَن دبّر ومَن نفذ ولماذا إلخ..
كان بوسعها، مثلاً، أن تُطلع اللبنانيين على السجل الأسود للشاهد الذي تحول إلى متهم معتقل في فرنسا ويطلب لبنان تسلمه (محمد زهير الصديق)... وهو سجل قدم إلى ميليس فعلاً، وبات معروفاً للقاصي والداني، ولكن دمشق ضنّت على اللبنانيين (والسوريين) بكشف حقيقته.

لقد استمع اللبنانيون، باهتمام، إلى حديث صحافي للرئيس بشار الأسد قال فيه إنه يعتبر من قد يكون شارك من السوريين في جريمة اغتيال الحريري خائناً، وإنه مستعد لأن يسلمه إلى محكمة دولية فضلاً عن أنه سيحاكمه في دمشق.
... لكنهم فجعوا بالردود الرسمية، فضلاً عن التعليقات في الصحف الرسمية، على ما تضمنه تقرير ميليس من وقائع، ينتظر أن يحولها القضاء إلى اتهامات جدية ثم إلى توقيع العقاب على مرتكبيها، بعد إثباتها بالدليل القاطع.
ولقد شعر اللبنانيون أن الرئيس الأسد معني بمخاطبة الرأي العام الغربي، الأميركي تحديداً، وتبرئة نفسه (ونظامه) أمام العالم كله، أكثر مما هو معني بمخاطبة الشعب التوأم في لبنان...
وبمعزل عن حديث <<الصفقة>> بين الإدارة الأميركية والنظام السوري، ومدى جديته، في ظروف مختلفة تماماً عن تلك التي أدت إلى <<صفقة القذافي>>، فإن اللبنانيين الذين يتمنون الخير لأشقائهم في سوريا، ليسوا معنيين إلا بما يخصهم مباشرة من سياسات النظام السوري وعلاقاته العربية والدولية.

والاستشهاد بمثال القذافي يفضح أن <<الصفقة>> العتيدة لا تتصل بلبنان وتسهيل ظروف حياة أبنائه، إنما تتصل بمسائل أخرى أكثر تعقيداً بينها العراق وفلسطين وإيران حتى لو أضافت كوندليسا رايس اسم لبنان إليها.

ويعرف اللبنانيون أنه سيكون من الجنون أن يتورط لبناني، مسؤولاً كان أم غير مسؤول، في العمل مباشرة أو المشاركة في أي عمل تآمري يستهدف النظام السوري.

إن ما بين لبنان وسوريا مختلف جداً عما بين الإدارة الأميركية (واستطراداً الرئاسة الفرنسية والحكومة البريطانية) وبين النظام في سوريا.

ليس اللبنانيون طرفاً في الصراع السياسي داخل سوريا، وهم يعرفون بدروس التاريخ أن عليهم ألا ينساقوا إلى التورط، أو أن يأخذ الزهو وسوء التقدير بعضهم إلى تصدر أي هجوم غربي (أميركي إسرائيلي؟) يتذرع بأخطاء ينسبها إلى النظام لكي يحاصر سوريا ويضيّق على شعبها أسباب الحياة.

... وحتى اللبنانيون الذين يتظاهرون ويهتفون ضد التدخل السوري في لبنان لا يطمحون (فضلاً عن أنهم لا يقدرون) إلى التدخل في الشؤون السورية.

هل هي مصادفة في التزامن بين تقديم تقرير ميليس إلى مجلس الأمن، وهو يأتي في سياق تطبيق القرار 1595، وبين تقديم تيري رود لارسن تقريره حول مدى تطبيق القرار الآخر 1559 الذي لا يمكن فصله عن خطيئة التمديد التي أعطته المبرر اللاحق؟!

إن أخطر ما يمكن أن يقع الآن أن تدفعنا الرغبة في الانتقام، أو ضغوط الآخرين على عواطفنا وجراحنا، إلى التساهل في ترك الآخرين يربطون بين القرارين ويتعاملون مع الواقع السياسي في لبنان (فضلاً عن علاقته بسوريا) عبر توظيف القرار 1595 لخدمة أغراض القرار 1559.

وثمة هنا ما يستحق التوقف أمامه: فقد نشرت صحيفة <<هآرتس>> الإسرائيلية، أمس، ما وصفته بأنه <<نسخة من التقرير الذي لم يقدمه تيري رود لارسن بعد إلى مجلس الأمن>> ... وهو يقول فيه بأن <<التدخل العسكري السوري غير المباشر والاستخباري المباشر ما زال مستمراً... وأن هذا التدخل يتم من خلال امتدادات الوجود السوري المتبقية في النظام والجيش والقصر الرئاسي اللبناني، وكذلك في وجود كل من <<حزب الله>> والميليشيات الفلسطينية>>.

وحسب الصحيفة الإسرائيلية فإن لارسن سيضع عبر تقريره ضغوطاً أشد من تقرير ميليس، بما يزيد من احتمال فرض عقوبات على سوريا..
إن لبنان يريد الحقيقة في جريمة اغتيال شهيده الكبير رفيق الحريري.. لكنه لا يقبل بطبيعة الحال أن يصبح <<التعاطف>> معه ذريعة لفرض عقوبات على سوريا، في موضوع آخر لا يتصل بالجريمة من قريب أو بعيد.

بل إن تيري رود لارسن المعروفة عواطفه وأغراضه يمدد تقريره لكي يطاول <<حزب الله>> محققاً بذلك تزاوجاً عجيباً بين القرارين 1559 و1595... ومثل هذه المزاوجة مشبوهة، ولا يمكن أن يقبلها أي عاقل في لبنان.

إن أبسط ما يقول به العقل والوعي (والعاطفة أيضاً) أن تحصر مفاعيل القرار 1595 في نطاق جريمة الاغتيال، وألا نسمح باستغلال استشهاد الحريري وضرورة محاسبة المسؤولين عنها، لتحقيق أغراض لا تمت إلى مصلحة لبنان بصلة بل هي تعجل في تفجيره.

إن من يريد تقديم القرار 1559 على مقتضيات القرار 1595 إنما يحاول اغتيال رفيق الحريري مرة ثانية... ولا يبرر الجريمة الجديدة الادعاء بأن معاقبة سوريا هي المطلب في الحالين.

فليست المقاومة في لبنان تنظيماً إرهابياً يمكن التحريض عليه، ولا هي فصيل من الجيش السوري تأخر سحبه أو انسحابه وعليه أن يعجل فيه.

والدخول إلى الساحة الحرام للقرار 1595 من باب القرار 1559 لا يمكن أن يوصف بأقل من أنه مؤامرة على لبنان قبل أن يكون سعياً لمحاصرة سوريا.

يمكن التنويه هنا بموقف سعد الحريري الذي حصر المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن جريمة اغتيال أبيه الشهيد، مع التوكيد على علاقات الأخوة التي لا يمكن أن تفصم عراها بين اللبنانيين والسوريين.
كذلك لا بد من التنويه بموقف وليد جنبلاط الذي تجاوز هذا التأكيد على الأخوة إلى تذكير من يعنيهم الأمر في دمشق بأن معظم من يتعرضون لهجمتها الآن كانوا بين الحلفاء ورفاق السلاح والشركاء في معركة المصير القومي لإسقاط اتفاق 17 أيار، وهو أهم ثمار الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وقد أسقطه النضال المشترك... ثم تولت المقاومة الإسلامية بمساندة سورية غير منكورة، وبحماية سياسية كان هؤلاء <<الحلفاء>> بين أركانها، حتى تمّ النصر بالتحرير.

مصادر
السفير (لبنان)