مسكين الرئيس بشار الأسد!
إن كنت تدري، يا سيدي، فالمصيبة عظيمة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم. إذا كنت تعلم من دون أن تشارك، فعليك أن تحاسب المتهمين بالمشاركة. إن كنت لا تعلم، فأمر غريب عجيب في دولة شمولية لا يعرف رئيسها أن أجهزته قد تستهدف شخصا من وزن ورتبة الحريري!

لا أدري كيف يستطيع رئيس أن يترأس ويحكم، إذا كان لا يستطيع أن يحاسب ويعاقب، أو يسلم، على الأقل، المشتبه بهم إلى العدالة، أو اذا كان المشاركون الأقرب إليه لم يبلغوه ما يعتزمون!

يقول كونفوشيوس: «إذا ما استخدمنا الكلمات خطأ، فلن نستطيع اشتقاق النتائج الصحيحة». النفي بالجملة والمفرق على ألسنة أكابر النظام لا يفيد الدولة والحقيقة. هناك في التقرير الدولي وقائع ومعطيات وأدلة. وتفنيدها يجب أن يتم بالوقائع والمعطيات والأدلة. الوزير فاروق ضد الحكيم كونفوشيوس. لقد تعود على مدى عشرين سنة أن يستخدم الكلمات خطأ، أو «تضليلا» حسب ميلس، وحان له أن يريح الدولة والنظام ويستريح، فلم نستطع من كلامه «اشتقاق النتائج الصحيحة». الرأي العام السوري والعربي يريد معلومات، يريد تفاصيل، وليس معنيا بكلام عام، وبنفي على نفي على نفي.

ريتشارد هيلمز أحد ألمع مدراء الـ «سي. آي. إيه» الغابرين يقول: «الخطأ الوحيد لرجل المخابرات ان يضبط متلبسا بجريمته». تقرير ميلس يشير بسبابة الاتهام الى مخابراتيين وعسكريين سوريين متورطين: آصف شوكت، وماهر الأسد، وبهجت سليمان، ورستم غزالة... هؤلاء يشكلون الحرس الجمهوري والمخابراتي الجديد.

كنت أظن ان الحرس الجديد أكثر براءة وانسانية ومعرفة وعلما بهذا العالم وسياساته ومتغيراته وأشخاصه من حرس مخابراتي وعسكري سابق عاصر، وربما كان على علاقة، باغتيالات مروعة: اللواء محمد عمران، صلاح البيطار، ناظم القادري، رينيه معوض، حسن خالد، صبحي الصالح، رياض طه، إيلي حبيقة.. وعشرات التصفيات والمجازر في المعتقلات والسجون.

كنت أظن أن وصول رئيس شاب لا علاقة له بعصر أبيه، سيضفي هالة من الشفافية على الدولة وسلوك النظام، ويضبط مراكز القوى المتناحرة، والأجهزة الأمنية المتورمة والفالتة. كنت أظن أن رئيسا حاسما قادر، على الأقل، على كف يد الذين تناولهم التقرير الدولي فورا، من موقع العمل والمسؤولية، ريثما يقول القضاء كلمته فيهم.

هكذا تتصرف الدول المتحضرة، والأنظمة الحريصة على سمعتها ونزاهتها. مشكلة بشار أن المتهمين هم أكابر النظام والطائفة والعائلة الحاكمة. ومشكلتهم أن مبدأ السيادة لم يعد حاميا لحرية «الأسياد» في اغتيال حريات الآخرين، في عالم فضولي أكثر تدخلا وعلما بما يجري وراء الحدود وأسوار السيادة والاستقلال، وأشد إلحاحا واستعدادا للمحاسبة والمحاكمة وإنزال العقاب.

لا يضاهي مجافاة الحقيقة ونفيها سوى رؤيتها مجتزأة. عذاب كبير للكاتب أن يواجه النظام والناس برؤية الواقع من كل جوانبه، حلوه ومره. وعذاب كبير للحقيقة أن نأخذ منها ما يناسب مصالحنا المنحازة أو الضيقة، ونغفل الجوانب التي لا تناسب عواطفنا المعطلة لعقولنا.

لقد تعودت دائما ان اخاطب الضمير العربي، وضميري مرتاح، فحسبي أن أقول باكرا، كي لا يستبين النظام والناس النصح في ضحى الغد، حيث لا ينفع قول ونصح بعد فوات الأوان. قد يتطلب ذلك من الكاتب جرأة أدبية عندما يتعارض عرض الحقيقة والواقع مع العاطفة والظرف السائد، أو مصلحة نظام، أو أقلية، أو فئة من الفئات.

من هنا واستدراكا لجوانب الواقع والحقيقة، أقول ان تقرير ميلس ليس حكما قضائيا، كما يتوهم أنصاره اللبنانيون. التقرير أشبه بمطالعة النيابة العامة، أو محضر تحقيق أولي يجب استكماله على مستويات قضائية وقانونية أعلى. وقد أضعف التقرير إصرارُ كوفي أنان، في حياده الدولي، على حذف أسماء السوريين المتهمين.

اختيار ميلس لم يكن اعتباطا. لقد رشحته جنسيته الألمانية المحايدة، لكن علاقته الأميركية قديمة. فهو الذي كشف تورط المخابرات الليبية في عملية نسف ملهى برلين (1986)، مستعينا بأدق تقنيات الاتصال والتنصت الاميركية، ولعله استعان بها في تقريره الراهن، وبمثيلتها البريطانية في قبرص، ورديفتها الإسرائيلية في أعالي جبل الشيخ المحتل.

الطابع السياسي للتقرير واضح في اعتماد ميلس على شهادة خصوم سورية في لبنان، وما أسرع تكاثرهم بعد الرحيل! هاجس ميلس السياسي المنحاز والمحموم ظاهر في متابعة كل شاردة وواردة «تدين» مخابرات دمشق. تسريب معلومات التقرير واسماء السوريين المشتبه بهم، قبل تسليمه الى أنان، دليل آخر على الطابع السياسي البعيد عن التكتم القضائي المحايد. وها هو بوش يسارع الى التجاوب مع التقرير / الاعصار، بأسرع مما تجاوب مع ضحايا اعصار كاترينا، مستغلا إياه سياسيا ضد سورية، ومبادرا الى دعوة مجلس الأمن لاتخاذ الاجراءات اللازمة.

ما هي الاجراءات المتوقعة أو المطلوبة؟

العقوبة الاقتصادية غير ناجعة. التجربة العراقية دلت على أن الشعب المحاصر جاع، فيما شبع وأثرى النظام. في الحالة السورية، فالعقوبة ستنال لبنان والأردن والعراق بإجراءات التضييق والحصار، بسبب العلاقات التجارية التبادلية بين هذه الدول مع سورية وعبرها.

بديل العقوبة الاقتصادية تقديم المشتبه بهم الى القضاء. لكن القضاء في سورية «صوت سيده» خوف القضاء في لبنان من خوف الدولة وعجزها. ولا يمكن ارسالهم لمحاكمتهم أمام محكمة صدام، فالقاضي كردي، والادعاء أميركي ـ شيعي. والشهود طليان وأحباش. ومحامو الدفاع معرضون للاعدام قبل شنق صدام.

يبقى الاغراء الوحيد للسوريين لتسليم المتهمين هو تشكيل محكمة دولية خاصة يجلس على منصتها ايضا قضاة سوريون ولبنانيون. الطريف أن محكمة الجرائم الدولية ليس في وسعها محاكمتهم، لأن أميركا تقع في تناقض كبير اذا طالبت بمحاكمتهم أمامها، فهي ترفض الاعتراف بالمحكمة أصلا، خشية من محاكمة ضباطها أمامها. فهم متورطون ايضا بالقتل في العراق، وبالتعذيب في غوانتانامو وأبو غريب.

ضعف «البطة العرجاء» Lame Duek في البيت الأبيض من ضعف «البطة العرجاء» في دمشق. كلاهما أطلق العنان لمساعديه ورجاله. الأول ورطوه في العراق، فانقلب نصره هزيمة محرجة، وليس قادرا على السباحة بعيدا عنها، وليس قادرا على غزو الجيران منها، خوفا من هزيمة أكبر. والثاني ورطه رجاله في لبنان، وسباحته بعيدا عنه لم تنقذه من اخطائهم وخطاياهم فيه.

ما يقوله بوش في رجال بشار، يستطيع أن يقوله بشار في رجال بوش. مساعدو كولن باول يتهمون الآن تشيني ورامسفيلد بتوريط بوش (الجاهل في السياسة الدولية) في العراق. بوش الذي يطالب بمحاكمة رجال بشار، تلاحق الشرطة والقضاء رجاله. توم ديلاي كبير النواب الجمهوريين في الكونغرس سلم منذ أيام نفسه الى الشرطة. صوّرته. فتحت له ملفا إجراميا. أخذت بصمات يديه. أفرجت النيابة عنه بكفالة عشرة آلاف دولار، بانتظار محاكمته بتهمة «التآمر وغسيل الأموال».

«اللهم احمني من أصدقائي، أما اعدائي فأنا كفيل بهم». المتنبي أبلغ من ملوك فرنسا في وصف حال بوش/ بشار مع رجالهما. بطتان عرجاوان ضحيتان لروم معهما وروم ضدهما: وسوى الروم خلف ظهرك روم / فعلى أي جانبيك تميل؟».

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)