من أظرف ما مر بي، في تفسير انتحار، أو (نحر) الجنرال السوري القوي غازي كنعان، تفسير قاله بعض محللي دمشق (الاستراتيجيين) على احدى الفضائيات العربية. خلاصة التفسير، مع ابتسامة المحلل الواثقة، أن كنعان انتحر بسبب اصابته بمرض نفسي، قال اسمه بلغة الفرنجة إمعانا في العلمية، ولم أحفظه للأسف، هذا المرض يقوم على توحد الشخصية بمشروعها، وتمحور الذات على المشروع لدرجة التماهي بين الذات والموضوع، فيصبح إخفاق المشروع اخفاقا للذات نفسها، وموته يعني موت صاحبه تلقائيا وقنوطه من الحياة. ومن هنا، يقول محلل دمشق، يجب أن يفهم كل المحللين العرب، خصوصا (أعداء سوريا) في لبنان، القضية.

وكنعان، وفق هذا التفسير (المرهف) توحد بالمشروع السوري في لبنان، ولما ضرب هذا المشروع ضربت معه روح الجنرال، فانتحر !.

هذا الكلام كان قبيل صدور تقرير ميليس بقليل، وكان هناك من يتوقع ورود اسمه في صدارة المتهمين السوريين من رجالات الاجهزة. المفاجأة ان تقرير ميليس لم يحفل بغازي كنعان، واشار الى مسؤولين آخرين في الاجهزة السورية وتوابعها اللبنانية، ما يعني ان (التحليل الاستباقي) من محلل دمشق الاستراتيجي، اصبح ضربا من اللغو، وطلقة فارغة من المقذوف. ولا معنى لأن يربط انتحار كنعان باغتيال الحريري، او أن يكون ضغط القاضي ميليس هو الذي أدى الى توتر كنعان، وأن يكون اصيب بإحباط جراء (تلويث) اسمه بخراب لبنان، وهو الساهر على حمايته من الانقسام وقيادته الى الصمود، ودوزنة ايقاعه السياسي باتجاه البناء، طيلة سنوات حكمه من مجدل عنجر !.

بالمختصر المفيد، لا يوجد سبب واضح يجعل تغيرات لبنان، وتبعات التحقيق في اغتيال رئيس وزرائه رفيق الحريري، سببا مباشرا في انتحار كنعان، فهذا كلام لا يصرف في مصارف العقل، ويبدو أن هناك شيئا آخر قاد الطلقة الغامضة الى فم الجنرال المنتمي الى فئة الحكم السوري، بكل مواصفاتها الحزبية والعسكرية والاجتماعية، وهو من لباب هذه الفئة. شيء آخر يقال إنه إزاحة مبكرة لخليفة محتمل، بعد تزايد الهمس الامريكي عن تغيير حكام دمشق... يقال.

قضيتنا هنا ليست في تتبع مسارب هذه الحادثة وتفسيراتها، وربطها بالتحولات الضخمة التي تجري في (الشام) هذه الايام، والفصول التالية التي تنتظر الدراما السورية المثيرة، وهل سيعيد التاريخ نفسه ما بين بعث بغداد وبعث دمشق، وبنفس الاخطاء، وبذات العناد الذي سيسوق الى نتيجة هي (توأم) لمخاض تراجيديا الرافدين ؟! ربما.. ليس هذا غاية الحديث اليوم، فغايته هو الوقوف على أطلال هذا التفسير النفسي الظريف، لمصرع غازي كنعان، المتوحد بمشروع حياته، في لبنان ومحاولة رؤية مشاهد اخرى في عالمنا العربي، تملك مقومات مشابهة، ما يجعلنا ننتظر نتائج مطابقة كما يفترض في ترابط المقدمات بالنتائج.

ولن نبعد، سنتحول الى جار سوريا، العراق، والى ديكتاتورها صدام حسين، فالرجل كان مخلوقا امنيا ومخابراتيا بامتياز، ترقى بشكل مثير في مراقي حزب البعث العراقي الى ان ابتلع الحزب ثم الدولة ثم الشعب ثم نفسه ! . رهن حياته بمشروع طموح يتمثل بجعل العراق دولة عسكرية عظمى، وقارب الدخول الى نادي السلاح الذري، وبسط هيمنته على دول الجوار وغير الجوار، وسعى الى ابتلاع الصغار خارج غابته، بعد ان ابتلع كبار وصغار غابته، وأصر على استلحاق الكويت، وقام ببلعها في غزوة مذهلة، باعتبارها جزءا من تراب (العراق العظيم)، كما كان يردد دوما في لغة ذات نكهة هتلرية.

المعنى أن صدام ربط نفسه وإنجازه السياسي، بمشاريع كبرى، داخلية وخارجية، وليس مشروعا واحدا، كما في حالة غازي كنعان المنتحر، او «الذي اغتيل»، حسب (زلة لسان) فاروق الشرع، ومع ذلك لم ينتحر صدام حسين او يوسوس بتلك النية، بل إنه وفي أولى جلسات محاكمته، قبل ايام، في مجزرة بلدة الدجيل قبل عقدين، وقف بكل ثقة يوزع الابتسامات ويدون الملاحظات امام القاضي، ويقول: انا الرئيس. ويحتج على تأخير الجلسة، وقد جاء مهندما مسرح الشعر، بلحية مشذبة تضفي عليه شيئا من النقاء الثوري، من الواضح ان ضميره لم يكن في حالة اشتغال ! ولا يظهر عليه أنه يعيش حالة إحباط وقنوط بسبب النهايات الكارثية لمشاريعه، فلماذا لم ينتحر صدام حسين، ليس قبل ان يلتقط من حفرته، بل قبل ذلك بسنوات، يوم رأى، رأي العين، كيف أصبح اسير قصره الجمهوري في بغداد ، وهو الذي كان يغير على ايران والخليح، ويرسل امواله، وفرق اغتياله، الى عواصم العالم؟!.

ربما لأن ضمير كنعان أرهف من ضمير صدام..

حالة أخرى، أسامة بن لادن، فهذا الرجل رهن ثروته واسمه ومستقبله وحياته، ومماته ايضا، بمشروع واحد هو إقامة خلافة اسلامية على غرار طالبان، حليفته، وربما طمح هو الى ان يكون امير مؤمنيها، وفي الطريق الى ذلك فجر سفينة هنا، ونطح بناية هناك، وجعل عدو الاسلام الاول الدب الروسي، ثم النسر الامريكي، ثم اتسعت مساحة الاعداء، تقريبا بطول العالم وعرضه، ومرت لحظات اصبح بن لادن، وكل البنلادنيين، يشعرون فيها ان ثمرة الحلم قد أثقلت غصن الواقع، ويوشك ان تسقط على كفوف المنتظرين، خصوصا بعدما امتلك الزمن القاعدي كل الابعاد، وتربص بكل الاتجاهات، وأصبح سيد اللحظات، وبات خطاب بن لادن المتلفز فاصلة بين الايام، تقسم مياه الحياة الى يمين ويسار، لكن أنواء العالم لم تسعف احلام الرجل، فأطفأت شمعته، وتركتها في مهب الريح، وها هي تتراقص في مشهد الذبالة الاخير، ولا يعني هذا أن نيران الاحلام المشابهة لحلم بن لادن ستغيب عن مستقبل العالم، ولكنه يعني ان هذا الفصل من الحلم في هذه اللحظة من الزمن قد انغمر في رمال الاخفاق. نعم لقد اخفق حلم بن لادن، والوقائع تقول إن إمارته الاسلامية في افغانستان قد قصم ظهرها، وفرعه في العراق سيذوي، إما بتوافق اهل العراق او بتدخل الجيران الكبار الذين سيكون آخر شيء ينتظرونه في العراق جمهورية خمينية في جنوبه، أو إمارة طالبانية في وسطه وغربه.

هوى حلم بن لادن إذن، وما بقي هو استعراضات إثبات القوة، ولو لم تصل هذه القوة الى وجهتها المنتظرة، خصوصا إذا ما اعتبرنا أن الطموح كان، وظل، كبيرا كما عبرت عنه، مثلا، رسالة الظواهري الاخيرة للزرقاوي التي كشف عنها مؤخرا، وفيها يرسم الظواهري ملامح الحلم بالخلاص من القوات الامريكية في العراق، ثم إقامة دولة القاعدة في العراق، كمنطلق، ثم (الانسكاب) على بلاد الشام ، سوريا ولبنان والاردن، ثم مناجزة اسرائيل بالقتال، وإقامة الخلافة الاسلامية، ثم تنطلق رايات الجهاد في مشارق الارض ومغاربها...

هذه الصور المنفكة عن عالم الواقع، والخارجة من صناديق الماضي، هذه الصور التي تمثل مهجة روح بن لادن، ومدار كوكبه، قد تمزقت وتناثرت اجزاؤها، بعد سنوات من حرب العالم معها، وبقي بن لادن ورفيقه الظواهري في حالة هروب، والظواهري يطلب مائة الف دولار من الزرقاوي إلى أن (يفرجها الله)، ما يعني تناثر حياة بن لادن: الحلم، فلماذا لم ينتحر صاحب الصور حينما تدمرت صوره ؟ ولينتحر بطريقته الاسلامية، كما يشتهي، أليست هناك طرق عديدة لإنهاء الحياة بصبغة اسلامية خاصة، حسبما ينظرون ؟ لن يعجزه الاخراج المناسب.

وهناك حالات اخرى لمن هم برسم الانتحار ممن ربطوا حياتهم، ورهنوا مصائرهم، وتمحورت ذواتهم على مشاريع عمر، ثم تدمرت هذه المشاريع وتلاشت، لكنهم بقوا بصحة ورغبة عارمة بالحياة، وتكرار التجارب، وربما تغيير الجلود، كثيرون جدا، عكس تفسير محلل دمشق الاستراتيجي ، حالات تتنوع من القذافي زعيم الوحدات القومية الاندماجية المخفقة في عالم العرب، الى حسن الترابي صاحب الوعد الموعود بدولة الانقاذ الاسلامية في السودان ... وغيرهما.

الانتحار السياسي، بقراءة معينة، هو صورة من صور الاحساس بالمسؤولية، واحترام الذات، وتعظيم الايمان بالفكرة، وارتباط الروح، والعقل، والحياة، بهذه الفكرة، وهذا ما لا نعهده في سلوكيات الساسة العرب بشتى الوانهم، ولا يوجد ما يجعلنا نستثني غازي كنعان من هذا التعميم... حتى الآن.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)