مرة اخرى المشهد في سورية مشهدان، قيادة تبعث برسائل ايجابية الى الدول الاعضاء في مجلس الامن تخبرهم فيها بانها ستتعاون مع القرارات الدولية بعد صدور تقرير ديتليف ميليس رغم تحفظاتها عنه، وشارع يتظاهر وصحافة تشتم ورئيس وزراء يحذر من «فتح باب جهنم» وحلفاء يصلون في رفضهم للتقرير حد التهديد «بأن في سورية وفي لبنان من هو مستعد لشرب الدم اذا حصلت تطورات عسكرية» مذكرين بـ «المقاومة» في العراق.

وآخر ما يحتاج اليه المشهد السوري هو هذه الازدواجية المسماة في المفهوم الحزبي «التكتيك»، لان هذا «التكتيك» في الانظمة الشمولية التي توجه فيها السلطة كل شيء (من الاعلام وحتى تصرفات المواطنين) يحسب على الانظمة نفسها ويغدو جزءا لا يتجزأ من سياستها الرسمية وتدفع سورية بالتالي وزر تبعاته.

هذه المركزية القاتلة في الانظمة الشمولية كالنظام السوري لعبت دورا سلبيا في قضايا كثيرة وارتدت خسائر متعاظمة عليها، فعندما يهلل الجميع ويفتخرون بان «شعرة لا تسقط الا باذن النظام» لا يمكن ان يبرر النظام مثلا ان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان هو مجرد ضيف «مسالم» عنده او ان طرده من سورية تم بمعزل عن التهديد التركي، ولا يمكن ان يبرر ان عبور المقاتلين الى العراق للقتال ضد الاميركيين والعراقيين يتم من دون علمه او لقصور لوجستي في اجهزته الامنية ولا ان القيادات العراقية السابقة دخلت الى الاراضي السورية بشكل متنكر، ولا يمكن للنظام ان يبرر ان تورط مسؤولين سوريين في اغتيال الرئيس رفيق الحريري تم برغبة منفردة منهم او لنوازع شر في دواخلهم او لارضاء القيادة او مساهمة منهم في تخفيف الضغوط عنها,,, وفي السياق نفسه، لا يمكن ان يبرر ان الحملات الاعلامية في وسائل مملوكة للنظام وموجهة مباشرة منه تعبر عن وجهة نظر كتابها او ان الشارع تظاهر من دون تخطيط مسؤولي الفرع الحزبي او الاتحاد الوطني للطلبة هنا او هناك.

بالطبع هناك من سيقول ان سورية ليست بحاجة لان تبرر وان التبرير مطلوب من غيرها وانها تعطي الدروس ولا تتلقاها، ولكن في هذه المعادلة تضاءل كثيرا الصوت السوري المفيد، الصوت المستقل عن النظام والمنحاز في الوقت نفسه للبلد بمكونات سيادتها ووحدتها وعزتها، ففي عقيدة البعث النظام هو البلد فكرا وممارسة حتى لو سمح بهامش ضيق لآراء اخرى لا تختلف في المحصلة عن رأي السلطة.
بمعنى آخر، وعلى سبيل المثال، هل خرجت في سورية اصوات مستقلة لحظة الاعلان عن اغتيال الحريري تطالب باستدعاء القادة الامنيين في لبنان والتحقيق معهم وملاقاة التحقيق الدولي في منتصف الطريق؟ وهل استمع ، ودائما على سبيل المثال، قاض سوري الى العميد رستم غزالة في قضية الشيكات التي عرضت على التلفزيون واظهرت عشرات الملايين فجأة في حساباته وحسابات اشقائه؟ هل طلب اي صحافي او سياسي بأن يحصل ذلك؟ وهل طالب احد النواب باستجواب الوزير فاروق الشرع على اخطاء السياسة الخارجية السورية من حرب العراق الى القرار 1559 الى التعاطي مع اغتيال الحريري؟ وهل تساءل كاتب ومعلق عن سبب الاشادة المفاجئة بعد تحقيقات اللجنة الدولية في دمشق برئيسها ميليس وبموضوعيته وعن الهجوم المضاد السوري الذي حمل كل عناصر التبرئة ثم انتقل الى الانكفاء والدفاع والتهجم على ميليس؟ وهل سأل احد عن سبب الشتائم التي كيلت وتكال لسعد الحريري ووليد جنبلاط لمجرد انهما اعلنا انحيازا لا لبس فيه للسوريين ولسورية بمعزل عن «حفنة اشرار» تورطوا في جريمة الاغتيال؟ هل فسر احد كيف يتهمان بانهما يشملان الشعب السوري اذا لم يميزاه في تصريحاتهما وكيف يتهمان بانهما يريدان دق اسفين بين الشعب والقيادة ان هما فعلا؟

والمشهدان السوريان: التعاون من فوق والاحتجاج والرفض من تحت، يقودان في القراءة السياسية الواقعية الى تبلور خطأين شائعين: الاول ان النظام يتعرض لكل هذه «الضغوط» لانه لا يقدم تنازلات على جبهات العراق والسلام ولبنان، والثاني انه لا يستطيع التضحية برموز معينة خوفا من التضحية بالنظام نفسه,,, والتطورات اظهرت ان النظام الحالي كان الاكثر استعدادا للتعاون في كل الملفات وان ما يعتبره مريدوه ضغوطا هو عبارة عن اخطاء وخطايا ارتكبت، كما ستظهر ان التضحية باي رمز من اجل النظام امر «غير سعيد» لكنه وارد وبقلب بارد,

تظاهروا ونددوا واكتبوا واشتموا كما تريدون من تحت، ولكن القرار بالتعاون اتخذ من فوق، و«التكتيك» الذي يمارس، اضافة الى سماجته وانعدام فاعليته، صار مضرا بالسياسة العامة، تماما كما هو مضر التلويح بفتح باب جهنم في وجه الاميركيين او شرب الدم تماهيا بالمشهد العراقي,,, فالمشهد العراقي آخر ما تحتاجه سورية، والعرب اثبتوا بامتياز انهم لا يشربون سوى دماء بعضهم حتى وهم يدعون مواجهة الاميركيين.

مصادر
الرأي العام (الكويت)