مع أن تقرير ميليس كان أشبه بعرض بلا اتهام مباشر، وتنويهات تقارب الاتهام بلا أدلة حسية. حيث الشهود الشهود (يدّعون) و (يزعمون) كما جاء في الفقرة 96، إلا أن التقرير قد فسح في المجال أما انتقال التقرير إلى جلسة لمجلس الأمن.

أخطر ما في التعامل مع موضوع ما يُعد لسورية في مجلس الأمن، اعتبار أن الوقائع قائمة والاستهداف نهائي وأنه مهما فعلت سورية فإنهم سينالون منها. هذا المنطق اليائس يقود إلى تيئيس لا علاقة له بالسياسة من قريب أو من بعيد. فالسياسة مصالح متحركة والثابت الوحيد فيها هو المتغير، وهناك سبب آخر أهم يدعو للنظر في المتغيرات السياسية ، وهو التداخل في المصالح نفسها، فقد يكون من يناصبك الخصومة اليوم ، صديق الغد إذا ما عرفت كيف تغلب المصالح المتداخلة على عناصر التفريق. هذا ما حدث مع تركيا عام 1998 واليوم تعتبر العلاقات السورية –التركية من أهم العلاقات الإقليمية.

صحيح أنه يخطئ من يتصور أن النظام الدولي سيقف في وجه التعاون الثلاثي : الأمريكي الفرنسي البريطاني، فالمسألة الخطيرة منذ سقوط جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر نفسها قد انتصرت في الحرب العالمية الثالثة، وأن عليها أن تغير نظام الأمم المتحدة الذي كان تعبيراً عن ميزان القوى العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد 11 أيلول سبتمبر بات واضحاً أن ليس من المسموح بفيتو لأي دولة غربية ما عدا الأمريكيين الذين يتركون للدول الأربع الباقية حق النقض الفيتو إسمياً بشرط عدم استخدامه ، حفظاً على ماء الوجه، وإذا ما كان ثمة من اختلاف سيصدر القرار بصيغة توافقية مطاطة قابلة للتفسير من أي دولة بالطريقة التي تناسبها ، وهذا ما حصل بخصوص القرار 1546 ، وغيره ، وهذا ما سيحدث بخصوص القرار المعد تجاه سورية، بمعنى أن المراهنة على أي دولة عظمى خارج حدود الامتناع عن التصويت ، هو عيش في الماضي.

الفرنسيون يبدون أنهم أذكى من أن يذهبوا بعيداً، أقله على المدى المنظور لحين انتهاء التحقيق. وما يطلبه الفرنسيون هو التعاون. ونعتقد أن هذا ما سوف يكون في القرار المقبل في مجلس الأمن، على اعتبار أن الرئيس الأمريكي يسلم للرئيس الفرنسي بآلية التعامل مع مسألتي سورية لبنان، تسليماً يقر بمعرفة الفرنسيين أكثر بوقائع وعقلية المنطقة. وهو ما يبدو على أنه بمثابة تقاسم وظيفي على المستوى الدولي بين الدولتين العظميين(الولايات المتحدة،وفرنسا) في مرحلة بلورة النظام العالمي الجديد وخصوصاً بعد سقوط بغداد.

القول بأن التقرير مسيّس ممكن نظرياً تجاه تقرير ميليس؛ بمعنى التخيل أو الرؤية البوليسية أو التحرّز، لكن القول أنه من الممكن استخدام هذا التقرير بشكل سياسي هو الأمر الأكثر أرجحية، خصوصاً وأن التقرير لم يقدم موقفاً يقول إن التحقيق انتهى.

وهنا واضح أن باريس تريد أقل قدر ممكن من التسييس، وهذا حسن في الحدّ الأدنى. وهنا لن يكون أمام مجلس الأمن إلا عرض عناصر الشك أو الاتهام، وسيحاول كل طرف أن يشد النتيجة الافتراضية إلى جانبه، أي أن التقرير سيكون بيد 15 دولة، وستكون النتيجة هي حاصل التقاسم الدولي، وهو لا يعني وجود صورة نهائية لما سيأتي من نيويورك، لأن هذا سيكون مبكراً لحين الانتهاء من تقاسم الإرادات ، طالما أن مكاسرة الإرادات ستكون في حدها الأدنى.

المهم أي تعاون سوري سيطلبه قرار مجلس الأمن:

سورية تقول إنها تتعاون وأن المشاكل التي وردت في تقريره إجرائية ولم يعارضها ميليس لأنه اعترض على التحقيق في دولة محايدة ولم يرفض أن يكون التحقيق مع الشهود السوريين في الأراضي السورية ، ولم يعترض على التسجيل الصوتي وبالصورة وبوجود محامين ومترجمين... ومع ذلك فهو يشكك في (نوعية) التعاون السوري. صحيح أن هذا كان يجب أن يكون مكتوباً، وهذا من أهم دروس التعامل مع لجنة التحقيق الدولية،ويجب أن تضعها سورية في اعتبارها دائماً، إلا أن التعاون بدون شروط هو أخطر ما يمكن أن يأتي من مجلس الأمن طلباً من سورية. فلا يوجد في ميثاق الأمم المتحدة ما يسمح للقرار1595 أن يعمل تحت البند السادس أي بما لا يسمح بالإلزام أو البناء عليه من مؤيدات تتناول السيادة السورية أو تتجاوز القانون السوري. وهذا ما يشكل القلق الأساسي الذي يمكن أن يكون في رأس هرم أولويات السوريين.