مكة المكرمة
بلغنا <<قصر السلام>> مع آخر شعاع شمس، بينما البيت الحرام يتوهج بضياء الايمان والابتهالات والادعية وتشفع المؤمنين الذين تقاطروا من مختلف الديار الإسلامية لأداء العمرة، أو من داخل مكة وجوارها لكي يرفعوا صلواتهم من أقرب نقطة، في تقديرهم، إلى سدرة المنتهى، الكعبة المشرفة...

قادنا رجال القصر إلى قاعة علوية، رقينا إليها عبر سلالم كهربائية، حيث كان قد سبقنا بعض ضيوف الملك إلى إفطار واحد من أيام العشرة الأخيرة من رمضان، وفي واحدة من لياليها تقع ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر...
بشّرتنا جلبة المصورين والحرس بوصول الملك عبد الله، الذي دخل هادئاً وقد احتلت صفحة وجهه ابتسامة ترحيب: سلم على ضيوفه، وبينهم مسؤول افريقي وبعض أفراد الأسرة الهاشمية الآتين من الأردن، وبعض أفراد الأسرة الملكية المغربية، وقلة من الأسرة السعودية يتوسطهم بضعة من <<ضيوف الشرف>> ممثلين بأصغر أنجال الملك ومعهم بعض أحفاده الذين أضفوا على الافطار جواً عائلياً، خصوصاً عندما اكتشف السفير المغربي هنا أن بينهم من يلمّ باللغة الفرنسية.

بعد التفاتات الترحيب بضيوفه، أمسك الملك بآلة التحكم عن بعد بمحطات التلفزة، وانفتحت على المشهد الذي نطل عليه من نوافد القصر: حشود المؤمنين من حول الكعبة يرددون أدعيتهم بينما ترتفع أصوات المؤذنين بأذان المغرب،تناول الملك ومثله ضيوفه حبات من التمور، وشرب من رغب شيئاً من الماء أو العصير، ثم وقف فتقدمنا إلى المصلى، حيث أدى الجميع صلاة المغرب... وتأخر عنا الملك لأنه أدى، مع أفراد أسرته، صلاة الغائب لأرواح الراحلين.

في صالة الطعام كان الملك، وبرغم حرصه على مجاملة ضيوفه، ظاهر القلق.. وظلت يمناه تعبث بأزرار التحكم بالمحطات التلفزيونية: كان مهتماً بأن يعرف، تلك اللحظات، ما يدور في مجلس الأمن، حيث كانت قد بدأت مناقشة تقرير لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
تنقلت عينا الملك، وعيوننا أيضاً، بين عدد من المحطات التي كانت تتبارى بعد السرد في تحليل أقوال المحقق الالماني ديتليف ميليس وردود المندوب السوري، والاتهامات المسبقة ثم اللاحقة التي أطلقتها أوساط أميركية مسؤولة بينها وزيرة الخارجية كونداليزا رايس والمندوب الأميركي قائد الهجوم جون بولتون..
تبدى وجه الملك مثقلاً بالهموم... وتبدت ابتسامات المجاملات وكأنها مجرد فواصل للتمويه أو لطمأنة الآخرين.

لم يكن زمن اللقاء يسمح بحديث صحافي... ولكننا كنا مضطرين لاغتنام الفرصة، ولو من خارج اللياقات، لكي نسأل الملك عبد الله ولكي نبلغه كم يعلق اللبنانيون (والسوريون) من اهتمامهم على موقفه وما سوف يصدر عن المملكة حيال تطورات ما بعد الجريمة.

قال الملك عبد الله بلهجة مثقلة بالغم: والله ان مسألة لبنان تشغلنا وتقلقنا بأكثر مما تتصورون. كذلك فنحن مهتمون كل الاهتمام بسوريا، إننا حقيقة مهتمون بالحاضر والمستقبل في كل من لبنان وسوريا. إنهما أخوان ويجب أن يظلا أخوين. ونحن في موقع الشقيق لكليهما، وما يصيبهما ويصيب العلاقة بينهما سينعكس علينا. إننا نتابع المجريات باهتمام كلي، وإن شاء الله لا يكون إلا الخير.

قال الزميل عوني الكعكي: وحدكم من يقدر على لعب دور طيب، يا جلالة الملك.. والكل في انتظار هذا الدور،
اندفعت الى ما هو أبعد فقلت: لعل الامور قد تفاقمت أو تردت بحيث بتنا بحاجة الى طائف جديد، من أجل لبنان، هويته وموقعه ودوره، وعلاقته بسوريا، ولعل سوريا ايضا بحاجة الى مثل هذا المؤتمر كمدخل لعلاج أمورها مع لبنان..
ابتسم الملك عبد الله موحياً لنا بأنه قد أدرك مرامي محاولاتنا لاستدراجه الى الكلام، قبل أوانه، حسب تقديره، واكتفى بأن قال: لن نبخل بأي جهد نقدر عليه. تأكدوا أننا لن نقصر.

قبل يومين فقط كنا نسمع من وليد جنبلاط، في المختارة، تأكيداً جديداً لما سبق أن أشار إليه عن الدور الايجابي الذي تبدو المملكة العربية السعودية مؤهلة للقيام به في هذه اللحظات، معززة ومدعومة بجهد مصري ما زال بوسع الرئيس المصري حسني مبارك أن يبذله تأميناً للنجاح.
وكان بين ما أراح وليد جنبلاط تركيز الملك عبد الله، خلال اللقاء معه، قبل أسابيع قليلة، على ضرورة احتضان <<حزب الله>> الذي أثبتت قيادته تحليها بالحكمة والمسؤولية الوطنية، مع تنويه بالمزايا التي يتمتع بها الامين العام للحزب السيد حسن نصر الله.

في جلسات نقاش متعددة سابقة كان ثمة سؤال يتردد دائماً: من، من بين العرب، يستطيع جمع كل هؤلاء الاطراف المتخاصمين المتصارعين المتقاطعين المتنافسين المتحالف بعضهم مؤقتاً ضد البعض الآخر، والمختلة علاقاتهم بمجموعهم مع سوريا التي كانت من قبل عامل توحيد، ولو على طريقتها، في ما بينهم أو بين غالبيتهم في أقل تعديل؟!
من لدور ناظم الحوار الوطني، في ضوء التحقيق الدولي وبعد إعلان نتائجه الفعلية أي المبرأة من أغراض الاستغلال الدولي لحرب ضد سوريا تتخذ من جريمة اغتيال رفيق الحريري منصة لإطلاق هجومها الذي له أهدافه البعيدة عن مصالح لبنان واللبنانيين وسوريا والسوريين؟!

ومن لدور مرمم العلاقات اللبنانية السورية حتى لا يكون انهيار داخل لبنان أو داخل سوريا، أو في البلدين على التوالي؟!
هذا اذا وضعنا جانباً معركة رئاسة الجمهورية التي أغلقت خطأ قبل عام، والتي تنتظر مغامرة لفتحها مرة اخرى قبل نهاية الولاية الممددة، بعد عامين، والتي قد تكون مغامرة غير مأمونة العواقب؟!

من يستطيع جمع سعد الحريري والسيد حسن نصر الله ووليد جنبلاط وميشال عون وسمير جعجع ونبيه بري وجماعة البطريريك الماروني وسائر من يرون في أنفسهم الحل في حين أنهم موضع خلاف أو أسباب للخلاف بين الآخرين؟

إن مجلس الأمن، وبغض النظر، عما سوف يقرره تحت ضغوط الدول المقررة، وأبرزها الادارة الاميركية، ليس المرجع الصالح للسلام الاهلي في لبنان، كما انه ليس المرجع الصالح لإعادة صياغة العلاقات اللبنانية السورية، التي ستبقى ولا بد أن تبقى علاقات أخوة وتعاون وتكامل، بغض النظر عن أشخاص الحكام هنا وهناك؟

تبدو المملكة العربية السعودية وحدها المؤهلة..
فهل تقدم، ومتى تراها تتوافر شروط الإقدام، وما هو المطلوب من الحكم في سوريا، ومن دول الضغط على سوريا، ثم من الدول العربية الاخرى المؤثرة وفي الطليعة منها مصر؟
تلك أسئلة لا بد أن يدرسها جيداً الملك عبد الله قبل أن يقرر شكل المبادرة ومداها فضلا عن توقيتها الضامن لنجاحها..
وعلينا أن ننتظر الجواب في الوقت الصح..

مصادر
السفير (لبنان)