وفق سياق مقتبس من الروايات البوليسية تُنسج حادثة اغتيال الحريري داخل ثقافة يغذيها الإعلام في رؤيته المتناقضة، والمسألة هنا ليس سير التحقيق بل الصورة المقتبسة من "المحاكمات" الجنائية التي ترسم الرأي العام منقسما على نفسه في تقرير "المجرم" بينما "الضحية" كانت موجودة تمارس حياتها اليومية بشكل عادي. وبانتظار حكم "المحلفين" تبقى الصورة قائمة في تقارير الفضائيات ناقلة رؤية لكل الطرف.

اليوم يمكن أن نتحدث عن مجرم وضحية بالمعنى الإجرائي لكي نقدم صورة إعلامية، لكن المسألة تتشابك أمامنا في انفجار سياسي ربما يكون أعقد من أي بحث جنائي، طالما أن المحاكمة تتم على تاريخي، مرتبط بتصور للوجود السوري في لبنان منذ بداية الحرب الأهلية.
ورغم تفاوت الظرف السياسي وتحول الوضع الدولي إضافة لكل المتغيرات الإقليمية، فإن البحث في هذا الوجود مازال قائما بعد انسحاب القوات السورية. وهو أيضا يقوم بعملية سبر للبحث عما تركه هذا الوجود داخل البنية السياسية اللبنانية، في محاسبة شاملة لتاريخ من الصراع والدم وصولا إلى مؤتمر الطائف.
ومن الصعب أمام هذا الاختلاط ومنهج المحاسبة البحث في مفهوم كامل لمسألة المجرم والضحية، أو حتى إيجاد حقيقة ناصعة تدين طرفا وتعفي طرفا آخر، ليس لأننا أمام "محاسبة" سياسية أو تسييس لمسار التحقيق، بل لأن التعامل اليوم في كافة التداخل السوري – اللبناني يحاول أن يعفي نفسه من التاريخ، وكأنه خُلق لحظة اغتيال الحريري.

من المفترض أن يسير التحقيق كما يشاء له المحق لأن هذا الأمر بات واقعا مع الرغبة الدولية في اقتباس "الاشتباه" لمجرد "وجهة نظر". لكن من الصعب القفز على الزمن وخلق توقيت جديد لا يوجد قبله أي حدث أو تاريخ، لأن لبنان اليوم، كما سورية، هي استمرار للمرحلة السابقة حتى ولو حاول البعض التنصل من الزمن والادعاء بأنهم ولدوا داخل فضاء مجهول.

التجربة التي نعيشها اليوم تدفعنا أكثر نحو التعامل مع حادثة الاغتيال على صورة أوسع من مسار التحقيق، لأنه بالنسبة لنا فإن الوضع يتجاوز حالة توزيع التهم على طريقة "الروايات" المنسوجة بإيقاع التنصل من الماضي. فنحن أبناء الحاضر ولكننا نتاج الماضي وما نراه في لبنان ليس تحقيقا أو اغتيالا أو مؤامرة كبرى أو تسييس للتحقيق، بل الصورة الحقيقية لواقع سياسي يحتاج لمنهج في التعامل والبحث بغض النظر عن "عنف" الحدث الحالي. وحتى نصل إلى المستقبل فربما علينا أن نرسم صورتنا كما هي اليوم ثم نبحث عن إدارة للأزمة التي لا تهدد سورية فقط ... بل لبنان ولو بطرق مختلفة.