بعد تقرير ديتليف ميليس، وتقرير تيري رود لارسن، جاء <<تقرير>> حسن نصر الله.

لقد كان طبيعياً أن يركز نصر الله على ما نشرته الامم المتحدة بخصوص تطبيق القرار 1559. فالتقرير، في الاصل، يستهدف <<حزب الله>> وسلاحه وقد صدر باسم رفض التمديد للرئيس اميل لحود وتضمن مطلباً عزيزاً على قلوب الاميركيين والاسرائيليين من قبل أن يكون التمديد مطروحاً.

عند الكلام عن تقرير لارسن لا ضرورة لإبداء المخاوف من <<التسييس>>. التقرير سياسي من الالف الى الياء لذا لا رد عليه إلا الرد السياسي. يرسم التقرير، في استطراد القرار، صورة عن لبنان: جيش فاصل (بدل المقاومة) مع اسرائيل، وجيش فاصل مع سوريا في سياق ترسيم الحدود وتبادل السفارات، علاقة دبلوماسية مع السلطة الوطنية على قاعدة تسليم السلاح الفلسطيني وإلقاء حق العودة جانباً، تفكيك الجهاز العسكري للحزب، التقليل من خطورة الانتهاكات الاسرائيلية قياساً بالانتهاكات السورية، تجاهل المطالب اللبنانية من اسرائيل، افتراض حكم لبناني شديد الالتحاق بالمرجعية الدولية وشديد الاهتمام بتقاسم السيادة معها.
رد نصر الله على هذا التصور نقطة بنقطة. لاحظ أن لبنان طرف في الصراع مع اسرائيل لأسباب تخصه مباشرة، ولان المنطقة تتعرض الى اعتداء متماد، ولان نصرة الشعب الفلسطيني واجب، أكد أن المقاومة مستمرة والحزب باق على سلاحه ولو أنه منفتح على حوار يتأسس على كيفية تأمين المناعة ضد الخطر الماثل. رفض الوصاية الدولية حتى لو جاءت تحت رداء الامم المتحدة ومندوبها، ووجه انتقادات لاذعة الى لارسن لتجاوزه حدود مهمته، ولتدخله في أمور لا علاقة له بها، ولتبرعه بتقديم صورة عن السياسة الرسمية اللبنانية بعيدة عن الصحة.

في حين جاء الرد على لارسن قاطعاً في وضوحه، وحاداً، جاء الرد على ميليس في صيغة يمكن وصفها بالتالي: التحفظ على التقرير والانفتاح على التحقيق. الواضح أن الامين العام لحزب الله لم يقتنع بما أورده المحقق الالماني ولم يجعله ذلك يغيّر رأيه نتيجة تقديم حيثيات تحقيقية راسخة. يعني ما تقدم أن <<الحقيقة>>، في رأي نصر الله، ما زالت تنتظر <<تقريرها>>. لقد ميّز نصر الله موقفه من دون أن يخرج عن السقف الحكومي وإن كان ذهب أبعد مما ذهب إليه البيان المشترك مع حركة <<أمل>>. وترافق مع هذا التحفظ، المنفتح على استمرار التحقيق، تسجيل موقف من الاجواء التي سادت غداة صدور التقرير والتي ذهب بعضها الى تحديد الجناة بشكل حاسم، ووضع قضية العقوبات على جدول الاعمال. حاول نصر الله اكتشاف الاصلي في هذه الاجواء، أي التوجه الاميركي الاسرائيلي الى معاقبة سوريا على مواقفها أو ما هو منسوب إليها، حاول ذلك ليحدد إطار المواجهة الاقليمية الواسعة وليعلن انحيازه الصريح الى أحد معسكريها.

لن يرضي كلام نصر الله أطرافاً لبنانيين. هناك من سوف يعترض على هذه الطريقة في التعاطي الدولي مع ما يسمى المجتمع الدولي (لم يكن نصر الله نفسه دقيقاً عند الإشارة إلى <<المجتمع الدولي>>. لا يجوز اختصار هذا <<المجتمع>> ببضع دول غربية مهما كانت فاعلة ومؤثرة، فهذه دول لا يتجاوز عدد سكانها واحداً على عشرة من <<المجتمع الدولي>>). سيقال إن الذين <<تحداهم>> الأمين العام للحزب ساعدوا لبنان وينوون مساعدته ولا بأس إذا تنبهوا إلى ذلك متأخرين و<<صدف>> أن بعض المساعدة يتقاطع مع المصالح الإسرائيلية كما مع المصالح الأميركية في العراق ومصالح التحالف الأميركي الإسرائيلي في فلسطين. وهناك من سوف يستعيد <<نغمة>> عدم التشكيك بميليس وذلك في استعادة ممجوجة لما يسميه الأدب الكولونيالي <<نظرة المستعمَر>>، أي النظرة الدونية إلى <<الرجل الأبيض>>. وهناك... باختصار ان النقاش المندلع منذ سنة، لا بل منذ سنوات، سيستمر، ويتجدد، وقد يشتد. إنه النقاش ذاته حول الموقع الاقليمي للبنان وقد أضيف إليه، هذه المرة، تعقيد جديد يتمثل في الجمع بين الدفاع عن الموقع الممانع وبين أقصى الجدية في تقبل نتائج التحقيق في اغتيال الشهيد رفيق الحريري مهما كانت.
يمكن أن نضيف، بعدما جرى أمس في يوم القدس، أن النقاش سيتعزز نتيجة العرض ذي الطابع العسكري الواضح الذي أقامه الحزب. ومن الحجج القديمة الجديدة: لقد كنا أمام 8 آذار بثياب مرقطة، ها هي الدولة ضمن الدولة بأجلى مظاهرها، لا بل ها هي الدولة ضد الدولة، هذه رسالة مخيفة إلى الداخل اللبناني، هذا تحد للعالم لا يستطيع طرف واحد الانفراد باتخاذ القرار فيه، ويمكن الاستطراد...
إن ما حصل أمس هو، بالفعل، استعراض قوة. ولكن المرء يجب أن يكون مشبعاً بالنيات السيئة حتى يرى فيه أي عنصر تهديد للوضع الداخلي وأي تلويح بالاستعداد لتوظيف هذه القوة في غير محلها. إلا أنه من الواضح أننا نعاني، في لبنان، من تضخم في ذوي النيات السيئة. لا مجال، حيال هؤلاء، إلا طرح سؤال استفزازي عليهم: ما العمل؟ لم يقدم أحد من هؤلاء <<خريطة طريق>> مقنعة تقود إلى تطبيق ما تبقى من بنود 1559. لم يطرح أحد من هؤلاء على نفسه سؤالاً افتراضياً عن المخرج المحتمل في حال لم يسفر حوار لبناني (لم يبدأ بعد) عن توافق.

نعم سيكون ممكناً القيام بتعبئة مضادة. لقد حصل ذلك في السابق. ويمكن له أن يتكرر ولو بصعوبة أكبر. إلا أن ذلك لا يقدم جواباً مسؤولاً عن السؤال المطروح فعلاً. إنه يقدم جواباً خرابوياً وتهديمياً. الجواب المسؤول عن استعراض <<يوم القدس>> هو العمل على أن يتلاقى الكثير من الحكمة اللبنانية مع القليل من الضغط الأميركي. أما إذا حصل العكس، وتلاقى الكثير من الضغط الأميركي مع القليل من الحكمة اللبنانية فيمكن توقع الأسوأ. عندها لن يكون لارسن حاضراً لأي تدخل فالرجل يقدم تقاريره ويراقب، وتقريره الأخير، وهذا ما لم يقله نصر الله، عديم الصلة بأي تقدير دقيق لموازين القوى في لبنان سواء اللبنانية اللبنانية منها، أو الفلسطينية الفلسطينية.

إن تقرير لارسن سياسي بالمعنى الرديء للكلمة: يقرأ نصاً دولياً ويبحث عن تطبيق له في الواقع اللبناني. ربما توجب عليه أن يتعرف أكثر إلى البلد. ربما كان عليه أن يغادر تجربته في التمهيد ل<<اتفاق أوسلو>> بصفته مرشده الوحيد إلى قضايانا المعقدة.

مصادر
السفير (لبنان)