قضية اغتيال الحريري لم تشكل في أي وقت، مثار اهتمام الحكومة الأمريكية، ولكن الأمريكيين وجدوا فيها ضالتهم المنشودة من اجل إخضاع سوريا أو محاولة فرض إرادتهم عليها

لا مانع في أن نصدق الرئيس بوش ولو مرة واحدة، خاصة عندما يقول إن الخيار العسكري ضد سوريا سيكون آخر الخيارات.

فهذا كلام منطقي بالفعل، لأن أي تحرك عسكري نحو سوريا قد يكون انتحاراً سياسيا بالنسبة له ولحكومته، في ظل الأوضاع المتردية في العراق، من ناحية، وفي ظل ما قد يسفر عنه أي عمل عسكري ضد سوريا من تصعيدات وتوترات بالغة الخطورة في منطقة الشرق الأوسط ككل بل وفي العالم كله.

وما دمنا قد صدقناه هذه المرة، فعلينا أن نقول إنه في ظل استبعاد الخيار العسكري لن يبقى أمام واشنطن إلا خياران أولهما اللجوء الى محاولة فرض العقوبات الدولية ضد سوريا، وتطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والذي يعني فرض عقوبات جدية على دمشق، سترغم على تنفيذها (191) دولة هي أعضاء الأمم المتحدة وثانيهما هو اللجوء إلى محكمة دولية لمحاكمة المتورطين في جريمة اغتيال رفيق الحريري، وهي محاكمة ستتحول بطبيعة الحال إلى محاكمة للنظام السوري.

وكلا الخيارين يسيران في اتجاه واحد بهدف إضعاف شوكة سوريا، وإجبارها فيما بعد على طرد أو استبعاد عناصر ورموز المقاومة اللبنانية، والتنظيمات الفلسطينية من أراضيها، وهي خيارات تصب في خانة المصلحة الاستراتيجية ل “إسرائيل” بطبيعة الحال.. كذلك إضعاف قوتها الاقتصادية والعسكرية، وربما دفعها الى التسليم بالسياسة الامريكية كما فعلت ليبيا نتيجة الضغوط التي مورست عليها لسنوات طويلة.

وأمام الخيارين المتبقيين لواشنطن في مسلسل “فرض الإرادات” وجد النظام السوري نفسة أيضا أمام خيارين كلاهما مر، الأول هو التشكيك والتشهير بالتقرير الابتدائي الذي قدمه القاضي الألماني ديتليف ميليس حول قضية الإغتيال، والذي ألمح بشكل مباشر إلى أن هذه الجريمة لم يكن ممكناً أن تتم لولا تورط عناصر من اجهزة الأمن السورية واللبنانية.

لكن سوريا في الوقت نفسه وجدت نفسها مضطرة الى إعلان تعلن استعدادها للتعاون مع أعضاء لجنة ميليس التي تعتبرها لجنة مسيسة، لأن التعاون معها هو السبيل الوحيد للنجاة من العقوبات، التي قد تفرض في اطار الفصل السابع.

واذا كان الخياران الامريكيان يعكسان رؤية واضحة لما تريده واشنطن من سوريا، فعلى الطرف الآخر يبدو أن الخيارين السوريين يعكسان المأزق السوري، الذي يجد نفسه مضطراً الى التعاون مع من يرفضه، ومع من يتهمه بأنه يقدم الحقيقة في قضية اغتيال الحريري، لصالح واشنطن.

ان قضية اغتيال الحريري لم تشكل في أي وقت مثار اهتمام الحكومة الأمريكية، ولكن الأمريكيين وجدوا فيها ضالتهم المنشودة من اجل اخضاع سوريا أو محاولة فرض إرادتهم عليها.

ولهذا فقد قررت واشنطن أن تستبق الأحداث وتبدأ في التحرك، مع صدور التقرير الابتدائي للجنة ميليس، مع أننا جميعاً ندرك ان ميليس لن يقدم تقريره النهائي قبل 15 ديسمبر المقبل، أو بعد ذلك بأيام أو أسابيع.

ورغم أن التحرك الأمريكي جاء مبكراً، إلا أنه فيما يبدو فإن الأوراق جميعها لم تلق على الطاولة دفعة واحدة، فتقرير ميليس يشير إلى أن هناك وقائع لم يتم الإفصاح عنها بالكامل، وهو ما أشار إليه التقرير في فقرته الثانية والعشرين والتي تقول “في وضع هذا التقرير، بذلت اللجنة جهدها لضمان ألا يضر أي شيء تفعله أو تقوله بالتحقيق الجنائي، أو بأي محاكمة يمكن أن تتبعه، ولاتستطيع اللجنة في هذا الظرف الكشف عن كل العناصر المفصلة والحقائق التي بحوزتها.

وهذا يعني أن اللجنة تحتفط بحقائق ووقائع قد يتم تفجيرها بشكل مفاجئ في الأيام القادمة.. عندما يقتضي سير الأحداث ذلك.

لقد بدأت واشنطن خطوة حاسمة جديدة في سعيها الى إخضاع سوريا، وهي ثاني أهم خطوة في عهد إدارة الرئيس بوش الابن منذ إصدار الكونجرس الأمريكي لقانون محاسبة سوريا، الذي لم تكن له آثار موجعة على حكومة دمشق... ولكن هل تصل حكومة واشنطن إلى غايتها التي تسعى إليها في وقت قريب، أم أن الأمر سوف يستغرق شهوراً طويلة وربما سنوات؟

لا احد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، في ظل الخيارات العديدة المطروحة، والتي أعلن الرئيس بوش أن العمل العسكري هو آخرها، وفي ظل عدم حماس اثنتين من الدول العظمى تملكان حق الفيتو في مجلس الأمن، لفرض عقوبات كبيرة على سوريا وهما روسيا والصين.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)