في سياق الدوي الهائل لتقرير «هانز بليكس سورية ولبنان» كما وصفت الصحف الألمانية المحقق ديتليف ميليس، يأتي كتاب «هانز بليكس العراق» عن «نزع سلاح العراق: الغزو بدلاً من التفتيش» (مركز دراسات الوحدة العربية، 2005). الكتاب في هذه اللحظة الحرجة يثير شهية القراءة والمقارنة بين الاثنين على ما بينهما من فارق. فعلى صعيد المقدمات، حقق «بليكس في قضية تتعلق بأسلحة الدمار العراقية، اما ميليس فيحقق في قضية عادلة تتعلق باستشهاد الرئيس رفيق الحريري. لكن الاثنين قد يتطابقان في النتائج.

ما يهم ان الكتاب يأتي في وقت تسعى الولايات المتحدة الى اعادة صوغ الشرق الاوسط على اسس جديدة، ليوضح لنا العبء الكبير الملقى على عاتق رجال الأمم المتحدة في مهماتهم الصعبة والتي غالباً ما تأتي في الوقت الضيق. فقائد فريق «الأرانب السرية المضطربة»، أي هانز بليكس كما ينعته «رعاة البقر» في لجنة الامم المتحدة لنزع اسلحة الدمار الشامل التي ترأسها كل من رالف ايكيوس وسكوت ريتر ثم ريتشارد باتلر، ورث عن سابقيه (ريتر وباتلر) الكثير من الاعباء، اذ كان فريق «رعاة البقر» من اللجنة الخاصة للأمم المتحدة على صلة وثيقة بالاستخبارات الاميركية، ولعب قسم كبير منهم كما يذكر بليكس دوراً في التجسس على الاهداف العراقية قبل كل عملية قصف وبعدها، وهذا ما جعل تهمة الجاسوسية تلاحق بليكس دائماً من جانب المسؤولين العراقيين كما يقول.

ومن وجهة اخرى أورثه اسلوب «رعاة البقر» عبئاً آخر، اذ تصرفوا في العراق بوحي من «اسلوب رامبو» على حد تعبيره، بإذلال المستجوبين وتأجيج نار العداوة مع العراقيين، فبدت عمليات التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل، كأنها عملية عسكرية محدودة داخل الاراضي العراقية، وهذا ما جعل من التفتيش عبئاً على بليكس وعلى العراقيين الذين باتوا يرون فيه عقوبة وليس فرصة للخلاص من العقوبات الدولية المفروضة على بلادهم.

في ذكرياته هذه التي لا تأخذ صيغة مذكرات، يدرك بليكس انه كان يلعب في الوقت الضائع لئلا نقول الاضافي. فثمة حيرة تنتابه من انه يعمل بلا جدوى، اذ ان الامم المتحدة مخترقة وعاجزة وهذا ما يدفعه الى التساؤل: «هل نحن امام نظام تفتيش خاضع للأمم المتحدة، ام اننا أمام أمم متحدة تتحول الى غطاء لعملية حربية؟». وهذا ما حدث، فعلى رغم نجاح عمليات التفتيش والاستجابة المرنة للحكومة العراقية، بدا واضحاً كما يقول بليكس ان اميركا مصممة على الغزو ولن يثنيها شيء، وأن الغزو لا يعود الى افعال ارتكبها العراق، بل الى الجراح التي تسبب بها تنظيم «القاعدة». نعم بدأت الحرب تتحول الى واقع محتم بالنسبة الى المراقبين،

وأوضحت، كما يقول بليكس، واقعاً بالفعل، وهذا ما جعل من خيارات التفتيش التي اريد لها ان تكون عائقاً امام خيارات الحرب مجرد تمارين على اللعب في الوقت الضائع. فالادارة الاميركية وعلى رغم ثنائها على بليكس ووصفه بـ «المحترم والنزيه»، الا انها كانت تريد لبعثته الفشل الذي يسرع في العمليات العسكرية. يؤكد بليكس ان تقارير الاستخبارات الاميركية عن اسلحة الدمار الشامل كانت تفتقر الى الدليل، وهي تهويمات اكثر منها حقائق، وكذلك الحال بالنسبة الى تقارير المنشقين التي يُعتمد عليها. فكثيراً ما يسوق هؤلاء معلومات لا أساس لها من الصحة، اضف الى ذلك ان البروباغندا الاعلامية الاميركية تضغط بشدة وتلهث وراء قشة استخباراتية كما جرى بالنسبة الى صفقة اليورانيوم المزعومة المقبلة من النيجر، لتقسم بها ظهر البعير العراقي.

بما يشبه الاعتراف، يقر صاحب البذلة المجعدة كما وصفه التلفزيون السويدي، بأنه كان عاجزاً عن الحسم والقول ان العراق لا يمتلك اسلحة الدمار الشامل، ويعزو ذلك الى عدم قدرة العراق ورغبته في البرهنة على انه لا يملك اسلحة دمار شامل، أضف الى ذلك، وهنا تكمن المأساة، انه بعد لقاء مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مال تحت الضغط المتواصل الى مجاراة الضغوط، ويقول: «ملت شخصياً الى التفكير في ان العراق لا يزال يخبئ اسلحة دمار شامل، ولكنني احتجت الى دليل قاطع». (ص197)

بين فشل بليكس في العثور على اسلحة الدمار الشامل او عجزه عن القول بعدم وجودها، ثمة خرم ضيق تمر منه النيات السيئة التي يخطط لها الآخرون، وهذا من شأنه ان ينطبق على تقارير كثيرة لا تقطع بحقيقة الاشياء فتبقي الباب مفتوحاً لكل الاحتمالات، وبذلك يصبح الغزو بديلاً للتفتيش (!)

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)