يشعر ملايين السوريين في الداخل والخارج بكم كبير من الحزن والأسى والمرارة وهم يرون معظم وسائل الإعلام العربية والعالمية تنهش في الجسد السوري بطريقة خسيسة بحيث أصبحت سوريا كما الأيتام على مأدبة اللئام. وقلما تجد منبراً أو صحفياً عربياً ينصف الموقف السوري إلا ما ندر، وكأن هناك ثأراً لمعظم الإعلاميين العرب مع دمشق. ومما يزيد الطين بلة أن المعركة الدائرة بين الإعلام السوري والإعلام الخارجي أشبه بملاكمة بين الملاكم العالمي مايك تايسون وهو من الوزن الثقيل وملاكم آخر من وزن الريشة. ولا داعي للشرح كم يستطيع الملاكم خفيف الوزن الصمود أمام لكمات تايسون. وقد اعترف مجلس الشعب السوري بضعف أداء الإعلام المحلي مما حدا به في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ السوري إلى استدعاء وزير الإعلام كي يشرح للاعضاء الموقرين سبب هذا التخبط الإعلامي في الرد على الحملات الإعلامية المغرضة التي تستهدف البلاد قيادة وشعباً. صح النوم يا سادة يا كرام!

إن صحوة الضمير المفاجئة لدى البرلمان السوري تجاه وضع الإعلام المترهل والأعرج الذي خرج من كل مضمار جاءت متأخرة جداً، وفي التوقيت الخاطىء. وكلنا يعلم أن العليق لا ينفع عند الغارة. فلا يمكن معالجة إعلام ميت سريرياً أو في أفضل الأحوال مسرطن من رأسه حتى أخمص قدميه بحبة أسبرين وبعض عمليات التدليك. فالسرطانات والموت الدماغي لا تداوى بالمراهم والأعشاب والبخور والمساج. ولا داعي الآن لتوصيف حالة الإعلام السوري الخشبي ونوعية القائمين عليه ومستواهم المهني وكيف يديره الأشباح الذين يفهمون بالإعلام كما تفهم الأشباح في علم الخلايا الجذعية، فهذه أصبحت من البديهيات. وكي لا نظلم الإعلام الرسمي السوري فهو ليس أسوأ من بقية وسائل الإعلام الرسمية العربية، فكلها أصبحت في ديار الحق ولا تجوز عليها الإ الرحمة كونها قضت نحبها وشبعت موتاً منذ زمن بعيد. وكما يقول المثل فإن الضرب في الميت حرام.

لكن الأمر الذي يجب أن تنتبه إليه الحكومة السورية وتعمل على تصحيحه كي- على الأقل- تخفف من وطأته على البلاد هو كيفية التعامل مع وسائل الإعلام العالمية والإعلاميين لأن معركتها الرئيسية مع العالم معركة إعلامية قبل أن تكون سياسية. فالإعلام العربي والدولي ينال من السوريين ويقض مضاجعهم ويهز كيانهم سياسياً وشعبياً أكثر من الرصاص والبارود. وهذا أكبر دليل على مضاضة السلاح الإعلامي الموجه إلى صدور السوريين هذه الأيام.

لا اعتقد أن هناك دولة عربية أهملت وتجاهلت تأثير دور وسائل الإعلام الخارجية كالدولة السورية، فقد كان القائمون على الدولة وما زالوا يتعاملون بفوقية وعنجهية ولامبالاة واضحة مع الإعلام الخارجي والإعلاميين وكأنهم مجرد حشرات ليست جديرة باهتمامهم، مع العلم أن هناك مثلاً شعبياً بسيطاً يقول إن "الحجر الذي لا يعجبك يمكن أن يفجك". وكم شعر خبراء الإعلام بخطورة هذا الموقف الرسمي السوري اللامسؤول الذي لم يحاول يوماً التعرف عن كثب على تأثير الإعلام القادم من وراء الحدود وخاصة في عصر السماوات المفتوحة والعولمة الإعلامية كي يتقي شره على أقل تقدير. لم ينتبه علية القوم في سوريا إلى قوة الإعلام إلا ربما في الآونة الأخيرة بعد أن بدأ يفت في عضدهم ولا حول ولا قوة لهم سوى كظم الغيظ واتهام الإعلاميين المعادين بـ"المتصهينين". فلا تقدر الأجهزة السورية بكل جبروتها الداخلي أن تتصدى لرئيس تحرير جريدة عربية لا يساوي بلغة الإعلام المحترم "قرشين ونص".

لقد بدأ السوريون يدفعون ثمن سياساتهم الإعلامية الفاشلة وطريقة تعاملهم المتخلفة مع الإعلام والإعلاميين. فكل الدول حتى الفقيرة جداً تحسب ألف حساب للإعلام، فتراها تقرب مئات الصحفيين والإعلاميين منها وتربط معهم علاقات طيبة ووثيقة كي يكونوا عوناً لها في أوقات الأزمات والمحن، خاصة إذا ما علمنا أن إعلامياً مؤثراً واحداً قد يذود عن بلد بأكمله أكثر من وزارة إعلام عربية بشحمها ولحمها إن لم نقل أكثر من فرق عسكرية بكل عتادها وعشرين جهازاً أمنياً. أما السلطات السورية فقد كان من هواياتها المفضلة تنفير الإعلاميين وخلق عداوات مع معظمهم ومعاملتهم بطريقة أمنية فجة. لقد كان حرياً بالسوريين أن يعلموا أن الصحفيين قد يتحولون إلى سيوف بتارة لا ترحم حتى لو كانوا من الدرجة العاشرة، وبإمكانهم أن يصيبوا أي نظام مهما بلغت قوته في مقتل في هذا الزمن الإعلامي المفتوح. وبالتالي فمن السخف الشديد لأي نظام الدخول في عداوات مع الكتاب والإعلاميين.

لقد لاحظنا في الآونة الأخيرة أن جريدة عربية من الدرجة العاشرة بعد المائة استطاعت أن تقض مضاجع السلطات السورية وتؤرقها بمجرد شن حملة إشاعات وأكاذيب وفبركات ضد النظام. والسبب بسيط جداً وهو أن أحد المسؤولين السوريين الأشاوس فتح معركة مع رئيس تحرير تلك الصحيفة وظن أنه يستطيع تركيعه كما لو كان مجنداً غراً في كتيبته أو "آذن" في محافظته. لكن صاحب الصحيفة قبل التحدي وراح يسخـّر جريدته لفبركة الأخبار ونشر التقارير الكاذبة عن سوريا، لا بل استمرأ اللعبة فيما خارت قوى الطرف المقابل منذ زمن لعدم قدرته على مجاراة الصحيفة المسيئة في التراشق والمنازلة.

لا أدري لماذا هذا الموقف الرسمي السوري العدائي والمتحجر والبائس من الإعلام والإعلاميين. ألا يفهم السوريون بشيء بسيط اسمه العلاقات العامة؟ أليس هناك من شخص حكيم يتولى هيئة خاصة لمد جسور مع الصحفيين لا كي يكونوا عملاء للنظام بل على الأقل كي يساهموا في شرح قضاياه والرد على حملات التشويه والدس الإعلامية التي تتعرض لها سوريا أكثر من أي بلد آخر ويكونوا منصفين في تناولهم للشأن السوري، أو في أسوء الأحول أن يبقوا على الحياد ولا ينضموا إلى جوقة المحرضين؟ وهناك الكثير من الحوادث التي تدين السلطات السورية في تعاملها المتخلف مع الإعلاميين، فهناك إعلاميون عرب وسوريون من الدرجة الممتازة، ولهم تأثير هائل على الساحة العربية ويتابعهم عشرات الملايين من المحيط إلى الخليج. لكنهم عانوا الأمرّين على يد بعض المسؤلون الجهلة في سوريا، فبدلاً من التقرب من هؤلاء الإعلاميين والتعامل معهم بطريقة حضارية والترحيب بهم واستقبالهم في قاعات الشرف أسوة ببعض النكرات، كان بعض رجال الجمارك السوريين الجلفين من أمثال المدعو (علي زيتون) يتنمر عليهم ويهينهم ويفتش حتى حقائبهم الصغيرة بطريقة همجية ساقطة في مطار دمشق.

وقد عانى أحد الصحفيين السوريين البارزين من تسلط أحد المتنفذين الذي كان يعاقبه من خلال المماطلة في منح موافقات لأشقائه لزيارة القطر فيما يعرف بوفد المغتربين. وقد كان ينتظر هؤلاء المساكين سنوات وسنوات لزيارة بلدهم فقط لأن أحد الأشاوس كان يضع أضابيرهم في درجه الخاص لأعوام كنوع من العقاب لشقيقهم الذي لم يكن يروق لذلك المسؤول العتيد. ولولا تدخل أحد كبار المسؤولين الطيبين لـحُرم أشقاء الإعلامي المغضوب عليه من زيارة أهلهم لعشرات السنين. وقد كان هناك اعتقاد لدى ذلك المسؤول الغاضب وأمثاله أنه يستطيع ضبط الإعلام والإعلاميين بالتنكيل. يا له من تفكير قروسطي، فقد شاهدنا أن أتفه صحفي يمكن أن يسبب مشكلة عويصة لدولة بأكملها.

وقد حدثني إعلامي من طراز محترم آخر أنه اضطر ذات يوم للتوسط لأحد الأشخاص لدى أحد المسؤولين السوريين من أجل مساعدة بسيطة جداً ظناً منه أنه سيلبي طلبه بسرعة البرق كونه إعلامياً مرموقاً ويحظى بمكانة عربية عالية. لكن ما أن عرض الصحفي القضية البسيطة كواسطة خير على ذلك المسؤول المتنفذ حتى قام الأخير برقع الصحفي خطبة "قومية وطنية" عصماء وراح يمطره بالوطنيات الجوفاء كما لو أنه تلميذ مدرسة مطالباً إياه بضرورة خدمة الوطن من دون أي مقابل، لا بل مننه بأنه لم يعاقبه ويعاقب الشخص الذي جاء الصحفي للتوسط من أجله. وأذكر جيداً أن ذلك الصحفي الذي كان يُعتبر من أكثر الصحفيين وطنية وتحمساً لقضايا بلده كفر بالوطنية منذ ذلك الوقت. قد تعتقدون أن هذه أمور سخيفة، لكن صدقوني أنها تتسبب في أضرار هائلة للبلد بسبب حماقة بعض المسؤولين الذين لا يقدرون خطورة الإعلام والإعلاميين وضرورة مداراتهم.

وهناك كاتب وإعلامي سوري زار بلده بعد أكثر من عشرة أعوام في الغربة فطلبوا منه مراجعة أكثر من خمسة فروع أمنية "ومرمطوه" أياماً بلياليها. ولما عاد الكاتب إلى بلاد الغربة قرر عدم العودة إلى سوريا وراح يشن حملات صحفية وتلفزيونية شعواء على النظام لا تقل شراسة وضرارة عن الحملات الإسرائيلية.

ولا أدري لماذا لا تميز السلطات السورية بين صحفي مرتزق ومغمور وآخر بارز ومؤثر، فقد كان بعض الإعلاميين الأقزام وأصحاب الدكاكين الصحفية في أوروبا الذين لم تسمع بهم سوى زوجاتهم يُستقبلون على أعلى المستويات عندما يأتون إلى سوريا ويـُفرش لهم السجاد الأحمر، بينما أخبرني إعلامي عربي من أهم الإعلاميين الوطنيين العرب أنه شعر بألم وإحباط شديدين عندما زار القطر لأنهم رتبوا له لقاءات مع مسؤولين من الدرجة الخامسة أو مع ضباط مما حدا به إلى قطع زيارته والعودة حيث جاء ليشحذ قلمه من جديد ضد النظام. فبدلاً من رأب الصدع معه وتقديمه لعلية القوم ساهم بعض المسؤولين السوريين في تعكير الأجواء معه أكثر مما كانت معكرة قبل زيارته لسوريا. لقد سأل لقمان ابنه ذات مرة: "كم عدواً لديك يا بني، فأجاب الابن: عدو واحد فقط لا غير يا أبتي، فأجاب لقمان: هذا كثير جداً يا ولدي." فما بالك إذا كان الأعداء كثراً وإعلاميين أيضاًً؟

وبينما تحتفي الدول العربية الأخرى بإعلامييها العاملين في الخارج وتكرمهم بالأوسمة حتى لو كانوا من الدرجة التاسعة بعد المائة عندما يزورون بلدهم تجد أن السلطات السورية لا هم لها سوى مضايقة إعلامييها وتنفيرهم، معطية إياهم الانطباع بأنهم يجب أن يحمدوا ربهم لأنها لم تغضب عليهم وتركتهم طلقاء. وأعتقد أنه ينبغي على السلطات السورية ملاحقة ومعاقبة أي مسؤول يتسبب في معاداة الاعلاميين وإغاظتهم. فماذا يجني بعض المسؤولين السوريين عندما يضايقون صحفياً سوى دفعه لمعاداة سوريا وتسخير قلمه للنيل منها، وأعتقد أن هذه جريمة يجب أن يلقى مقترفوها عقاباً مريراً مهما علت مراتبهم.

ولا داعي للحديث عن نوعية الإعلاميين السوريين الذين يظهرون على الفضائيات للدفاع عن الموقف السوري، فبعضم مصيبة إعلامية بحد ذاتها وهم يفهمون بالإعلام كما أفهم أنا بالانشطار النووي، ناهيك عن أنهم يستعْدُون الناس على سوريا بدلاً من إقناعهم بعدالة مواقفها.

قد يقول قائل إن سوريا لم تعتد على شراء ضمائر الإعلاميين كما تفعل بعض الدول العربية الأخرى. وهذا أمر طيب، لكن هناك مئات الصحفيين السوريين والعرب الذين لا يريدون بيع ضمائرهم أصلاً بل يريدون المساهمة في الدفاع عن القضايا العربية العادلة، بشرط أن يتم احترامهم وتقديرهم والتعامل معهم بطريقة حضارية. وقد يقول آخر: مهما حاولت دمشق مد جسور مع الإعلاميين فإن ذلك لن يوقف الحملات الإعلامية الأمريكية والعربية المنظمة ضدها. لا أحد ينكر أن هناك تكالباً إعلامياً وسياسياً مبرمجاً على سوريا، لكن يمكن التصدي له والتقليل من مفعوله على أقل تقدير بحملات إعلامية مضادة اعتماداً على الاعلاميين الوطنيين.

ولا ضير من إقامة مراكز إعلامية والتعاون مع الهيئات الإعلامية العربية والعالمية والتنسيق مع الصحفيين العرب والأجانب واستمالتهم، فأمريكا صاحبة أكبر امبراطورية إعلامية في التاريخ ترصد مبالغ مهولة لاستمالة مواقع الانترنت والصحف والمجلات والإذاعات والتليفزيونات العربية كي تدافع عن الموقف الأمريكي.

لا أطالب السوريين بأن يكونوا على مستوى الأمريكيين في تعاملهم مع الإعلام والاستثمار فيه. فهذا أكبر من طاقتهم بكثير، لكنني أطالبهم فقط بأن يحذوا حذو القبائل العربية أيام العصر الجاهلي حيث كانت القبائل تتنافس فيما بينها على كسب ود الشعراء(الإعلاميين) وتستثمر فيهم، وتعتز بهم وتكرمهم. كيف لا وقد كان الشاعر(الإعلامي) يرفع قبيلته إلى سنام المجد ويعلي من شأنها ويذود عن كرامتها بقصائده العصماء! لقد آن الأوان لأن تفتح سوريا صفحة جديدة مع الإعلام والإعلاميين وتتخلص من أساليبها البائدة التي لم تجن منها سوى الخيبة بدلاً من الاكتفاء بتخوين كل من يعاديها إعلامياً، وفتح ملفات أمنية للمغضوب عليهم. آمين! والله من وراء القصد.