عندما كنت صغيراً كان والدي حينما يطلب مني تنفيذ أمرٍ ما أكبر من طاقتي ويلحظ عجزي عن تنفيذه, كان يوبّخني بعبارة يرددها على الطالعة والنازلة: هه.. وكيف ستتزوج إذن؟!
وكبرتُ وما زالت هذه العبارة تطرق سمعي كلما أبديت أي تذمّر أو أخفقتُ في تنفيذ أية مهمة تفوق إمكانيتي.. فمثلاً:

- خلال خدمتي العسكرية, أذكر أن قائد الكتيبة أمرني أن أهيم على وجهي في البادية وأصطاد كلباً شارداً وأذبحه بواسطة الحربة وأتناوله مشوياً على الحطب.. وذلك إثباتاً لرجولتي! ولما أبديت امتعاضي واشمئزازي من هذا الأمر, واعتذرت عن التنفيذ بمنتهى اللباقة مقترحاً البديل الأسمى, وهو أنه يشرّفني القيام بعملية فدائية في الأرض المحتلة ونيل الشهادة, على التهام لحم كلب.. فما كان منه إلا وأن سخر مني قائلاً: هه.. إذا مجرد فعل تافه كهذا تتهرّب منه! كيف ستتزوج إذن؟

- وذات يوم جاء محمود درويش إلى محافظتنا لتقديم أمسية شعرية, وتم اختيار إحدى الصالات الصغيرة لهذا الشاعر الكبير. ومن المعروف أن محبّيه كثر, ولا تكفي مساحة عشرين صالة من مثل تلك الصالة التي تم اختيارها لتستوعب الحشود الكبرى التي جاءت لسماعه. ولما لم تقتنع الجهة المنظمة بتغيير المكان رغم كل المناشدات, اضطررتُ للامتثال كغيري وبدأتُ أتدافع محاولاً التسلّل من بين الأجساد المتلاصقة والمزدحمة، للحصول على مقعد. وحيث أن طبيعتي هادئة ولا أجيد التطحيش والتدفيش, فلم أستطع حتى من الدخول إلى الصالة. فما كان من صديقي الذي يرافقني إلا واغتاظ مني قائلاً: يا إلهي كم أنت نواعم! كيف ستتزوج إذن؟

- وأثناء (تأديبي) في أحد المعتقلات.. وبعد مضي سبعة وعشرين يوماً على توقيفي دون حمّام, وباتت رائحتي لا تطاق. سمح لي المحقق الاستحمام بشرط أن يتم ذلك بواسطة معجون (ندى) - لعدم توفر الصابون - وعلى مرأى من السجان, وخلال دقيقة واحدة! فاستنكرتُ ذلك معرباً عن رغبتي في البقاء دون حمّام على التحمّم بالشروط المذلّة تلك.. فما كان منه إلا وبادرني ساخطاً: فعلاً إنك تنْبل.. ألا تستطيع التحمّم بدقيقة؟!! ولكْ كيف ستتزوّج إذن؟

- ومنذ فترة طُلِبَ مني إعداد محاضرة عن اقتصاد السوق الاجتماعي. ولما اعتذرتُ عن ذلك مبرراً ومعترفاً بعجزي عن فهم هذا المصطلح الغريب, رغم إلمامي بمقولات الاقتصاد الاشتراكي والرأسمالي والإقطاعي والعبودي والمشاعي... أجابني محدّثي: ولووو.. هل يعقل أنك لم تفهم ما يعنيه اقتصاد السوق الاجتماعي؟ كل ما في الأمر أننا سنتّبع النهج الليبرالي بآفاق وتطلعات اشتراكية, بمعنى أننا سنعتمد على سياسة العرض والطلب لتحقيق العدالة الاجتماعية..( وأردف مستطرداً) هه.. إذا مصطلح بهذه البساطة لم تفهمه, كيف ستتزوج إذن؟

- ومؤخراًَ كُلّفتُ برئاسة لجنة المشتريات في الشركة, ولما طلبتُ إعفائي من هذه اللجنة المقيتة. طلبني المدير العام إلى مكتبه وأوضح لي بأنه لم يسبق أن اعترض أحدٌ على تكليفه بهذه اللجنة, ليس هذا فحسب, بل إن الجميع يتمناها. وإنه يتوجب عليّ تقبيل يدي على الوجه والقفا حمداً وشكراً.. أجبته بأن أخلاقي وسمعتي تمنعاني من الانخراط بالفساد.. قاطعني قائلاً: ومن قال لك بأننا نريدك أن تتلوث بالفساد؟ أجبته: بصراحة سيدي هذه اللجنة لا تليق بي, ولا يمكن إلا أن أغوص بالفساد بسببها. فمثلاً إذا جاء السيد الوزير إلى مدينتنا, ألن تطلبوا مني تغطية نفقات زيارته من ولائم وعزائم وهدايا وغيرها.. من حساب الشركة؟ أجاب: طبعاً ونسجلها تحت بند نفقات مستورة.. استغربت منه هذا المصطلح وقلت له إنني لا أفهم معنى ذلك! فوقف مندهشاً وقال لي: فعلاً إنك لست من هذا العصر! إذا النفقات المستورة لا تعرف معناها... كيف ستتزوج إذن؟

وهكذا دواليك.. حتى أصبح الزواج هاجساً حقيقياً يقلقني بمجرد تذكره..

فكّرتُ ملياً (ألهذه الدرجة يُعدّ الزواج مهمة شاقة؟ لسوف أجرّب خوض هذه المغامرة وعليّ وعلى أعدائي يا ربّ!) وهكذا قررتُ الزواج متحدياً الجميع..

وكم كانت سعادتي كبيرة, فقد تزوجت والحمد لله دونما عناء, وأنجبنا بعد زمن قصير طفلين رائعين... وقلت في نفسي من المؤكد أن تلك العبارة اللعينة لن تلاحقني بعد الآن أبداً.

إلا أنه ومنذ أيام, لم يعجب زوجتي تقطيع الفليفلة الحمراء من أجل المكدوس إلا على كرسي الحمّام! وحينما جلست عليه لأستحمّ وأنا المصاب بالبواسير, بدأتُ أصرخ متوجعاً. فهرعتْ زوجتي صوبي لنجدتي, وعندما عرفتْ السبب ضحكتْ قائلةً: هه.. إذا شوية فليفله حرة جعلتك تولول هكذا..! كيف ستتزوج إذن؟