لعل سوريا تمر بأصعب الظروف التي مرت بها منذ تسلم الرئيس بشار الأسد مهماته قبل خمس سنوات ونيف وحتى الآن، ذلك أنها تواجه ضغوطاً وتهديدات أميركية وأوروبية قد تتحول إلى ضغوط دولية.

وتكاد تفقد أوراقها الإقليمية التي كانت تشكل مصدر قوة لها، سواء في لبنان أم في العراق أم في فلسطين، في الوقت الذي تجد الولايات المتحدة ضالتها في تبرير ضغوطها وتهديداتها وصولاً إلى العقوبات من خلال تقرير اللجنة الدولية التي تحقق في مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.

وتتكئ عليها لإجبار سوريا على قبول طلبات تتجاوز مقتضيات التحقيق ونتائج التحقيق وتقع في إطار استراتيجية الإدارة الأميركية في المنطقة وعلى هدي هذه الاستراتيجية، ولم تعد المطالب الأميركية سراً، فقد أعلنها أكثر من مسؤول أميركي وقيل أنها كانت مدار صفقة بينها وبين سوريا.

فالإدارة الأميركية معنية استراتيجياً بإقامة الشرق الأوسط الكبير (الذي كدنا ننساه) بما يتطلب إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي .

واستقرار الوضع العراقي حتى يتواءم مع المشروع الأميركي في المنطقة وتعديل سياسات الأنظمة العربية القائمة لتتبنى المعايير الأميركية المتعلقة بهيكلية دولها ووظائفها وسياساتها ومفاهيمها واقتصادها .

وقيم شعوبها وأنماط حياتهم الاستهلاكية، وتسهيل الدخول في النظام العالمي الجديد، نظام العولمة الأميركية وفتح الحدود وتوحيد المعايير السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، حتى تغدو هذه الأنظمة .

وكأنها أنظمة حكم ذاتي في اتحاد إقليمي كبير تتغير بموجبه موازين القوى داخله وخارجه والمعايير الوطنية والقومية حتى يتعذر عليها معارضة المصالح الأميركية أو تشكيل خطر على سياساتها واستراتيجيتها.

لاشك أن سوريا ليست هي العائق الوحيد أمام تنفيذ هذه الاستراتيجية الأميركية في المنطقة لكنها تبقى عقبة أمام تنفيذها وعائقاً يحول دون تحقيقها بسلاسة،.

وهذا يفسر المطالب الأميركية من سوريا التي لا تقبل أقل من تجريدها من أوراقها الإقليمية كافة، أي نزع مصادر قوتها وتحييدها، وهذه الأوراق هي في الواقع ذات علاقة مباشرة بقوة النظام السوري واستمراره .

وسحبها يعني تخلي النظام عن جزء مهم من شرعيته التي سوغت له الاستمرار في حكم سوريا عدة عقود، فإذا تخلى النظام السوري عن شعاراته القومية ودوره الإقليمي سيفقد شرعيته أمام شعبه وأمام الشعب العربي في كل مكان.

وعندما تضاف إلى هذه المطالب مطالب أخرى تتعلق بتغييرات في السياسة الداخلية السورية لا يرغبها النظام، يصبح من المتعذر على السلطة السورية قبول المطالب الأميركية سواء منها الخارجية أم الداخلية، فقبولها يعني تجريد النظام من مبررات استمراره وسلبه أسباب وجوده.

ولعل هذا ما يفسر المعاندة السورية لمطالب الإدارة الأميركية ورفضها، وعدم إمكانية وصول الطرفين إلى تسوية مقبولة من كل منهما، فالقبول السوري بالحد الأدنى للمطالب الأميركية يعني فقدان النظام السوري شرعيته ومبرر وجوده.

ويبدو أنه مقتنع بأن المطالب الأميركية لا تنتهي (كما أكد أكثر من مسؤول سوري) وقبول بعضها يعني بداية قبولها كلها في نهاية المطاف، والواقع أن السلطة السورية غير قادرة على ذلك حتى لو أرادت لأسباب عديدة.

جاء تقرير اللجنة الدولية للتحقيق بمقتل الحريري ليزيد (في الطنبور نغماً) فقد قدم مبررات للإدارة الأميركية تمكّنها من المطالبة بعقوبات دولية هذه المرة ضد سوريا.

ولتوظف مجلس الأمن لتنفيذ استراتيجيتها، فلم تعد المبررات الأميركية اتهامات نظرية من غير دليل ونوعا ًمن الاستفزاز والصلف والتفرد بل أصبحت دليلاً بيدها من خلال تقرير ميليس، وبالتالي فُتحت الأبواب أمام الإدارة الأميركية لتجعل العقوبات دولية دون أن تُتهم بالتفرد والغطرسة.

كما كان الحال في غزوها للعراق، ولم يعد بإمكان السياسة السورية تجاهل هذه الاتهامات التي أسس لها التقرير وأشار بالشبهة إلى عدد من أهم المسؤولين الأمنيين في النظام السوري الذين يشكلون مصدر قوة له لاشك فيها لأسباب عديدة يتعلق بعضها ببنية النظام وطبيعته والبعض الآخر بسياساته الداخلية وآليات عمله ونوعية القوى المشاركة في اتخاذ القرار.

لقد ضاقت الخيارات أمام النظام السوري الآن، فقبول إحالة مسؤولين أمنيين (وربما سياسيين أيضاً) للتحقيق والمحاكمة والاشتباه بهم يجرده من بعض قوته ويضعفه أمام شعبه وأمام العالم.

ورفضه القبول بتقديمهم للتحقيق خارج حدود البلاد يسهل على الأميركيين وغيرهم فرض العقوبات عليه وصولاً لاعتباره نظاماً (مارقاً), أي أن كلاً من الخيارين شديد الخطورة.

ولن يجد النظام حليفاً لا عربياً ولا أجنبياً إذا كانت القرارات الموجهة ضده دولية صادرة عن منظمات دولية ومعمدة بالشرعية الدولية حتى لو كانت ظالمة، ولنا مثال بالعقوبات التي فرضت على العراق وليبيا مع اخذ اختلاف الظروف والأسباب بعين الاعتبار.

ربما لم يبق أمام النظام السوري الآن من سلاح فعال يؤهله للدفاع عن نفسه وبلده سوى تقديم المطلوبين إلى لجنة التحقيق مادام يعتبرهم أبرياء والفصل بين اتهامهم كأفراد وبين اتهام النظام وفي الوقت نفسه الاحتماء بالداخل السوري والاستقواء به، من خلال تنفيذ سياسة داخلية جديدة بمعايير مختلفة، تحترم الحريات.

وتقبل بالتعددية وتطلق العنان للحوار بين مختلف أطياف الشعب السوري وتؤسس لوفاق وطني وتمهد الطريق لإقامة وحدة وطنية قادرة على مواجهة أصعب الخيارات، ولعل هذا هو السلاح المتبقي والصالح للمواجهة ومنع الانهيار والوقوف بوجه الضغوط القائمة والعقوبات المحتملة.

وهو خيار ممكن التحقيق إذا توفرت له الإرادة الرسمية، خاصة وأن القوى والتيارات السياسية والاجتماعية والثقافية السورية تنادي بالإصلاح وترفض العنف وتستنكر مد اليد للخارج الأميركي أو الأوروبي لحل القضايا الداخلية.

وكل ما تصبو إليه هو تطبيق برامج إصلاح حقيقية وجادة تنطلق من ضرورة المساواة والحرية والديمقراطية والتكافؤ بين الجميع.

وإشراكهم في تطوير بلدهم ومواجهة الصعوبات في مختلف المجالات، وربما كان الاستقواء بالداخل السوري والاحتماء به هو أكثر الأسلحة مضاء إن لم يكن السلاح الوحيد الأمضى الباقي.

يبقى السؤال مطروحاً .

وهو هل يلجأ الحكم السوري إلى هذا الخيار، الذي يشكل كما يبدو خشبة الخلاص الأقوى والأكثر أماناً مهما كان حجم الضغوط الأميركية أو القرارات الدولية أم سيتجاهله؟ هذا ما ستكشفه الفترة القريبة المقبلة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)