لا يزال رئيس الجمهورية الممددة ولايته رغماً من ارادة غالبية اللبنانيين وممثليهم في مجلس النواب يؤكد في صورة شبه يومية عزمه على اكمال ولايته حتى آخر يوم فيها وحرصه على القيام بواجباته الوطنية والدستورية. وهو يعني بذلك انه لن يستجيب الدعوة الى الاستقالة من منصبه والتي وجهتها اليه قبل اشهر الغالبية النيابية والسياسية في البلاد والتي عادت الحياة اليها بعد تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أما العوامل التي تدفعه الى التمسك بالموقف المذكور رغم العزلة السياسية والشعبية الداخلية التي يعاني، والعزلة الخارجية من عربية ودولية التي تكاد ان تجعل العشب ينبت على طريق القصر الرئاسي في بعبدا، فهي مزيج من مواقف داخلية واخرى اقليمية. ففي الداخل المسيحي اذا جاز التعبير على هذا النحو يقف زعيم "التيار الوطني الحر" العماد ميشال عون سدا ًفي وجه استقالة لحود ليس حباً به ولا تعلقاً بسياساته الداخلية والاقليمية والدولية بل رغبة في ان تعترف له الغالبية النيابية والسياسية "المتخاصمة" معه "باحقيته" في التربع على كرسي الرئاسة. وعند حصوله على هذا الاعتراف بل عند تحوله قراراً بانتخابه رئيساً لولاية كاملة من ست سنوات يبطل ان يكون سداً الأمر الذي يضع الرئيس الحالي امام خيار وحيد هو الاستقالة. وأهمية دور عون في الاستحقاق الرئاسي هذا ليست كتلته النيابية (21 نائباً) على أهميتها بل كتلته الشعبية المسيحية الواسعة، والجميع يعرفون اهمية الدور المسيحي في اختيار الرئيس المسيحي للبلاد ولا سيما بعد التطورات التي شهدتها البلاد منذ انتهاء الحروب فيها عام 1990 واهمها على الاطلاق تجذر الطائفية وانطلاق المذهبية بسرعة صاروخية. وفي الداخل المسيحي نفسه شكل في الاشهر الماضية البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير سداً منيعاً آخر حمى رئاسة لحود من دعوات اخصامه وهجماتهم وهو لم يتخذ هذا الموقف بغية تحقيق طموح سياسي دفين عنده كما هي الحال عند العماد عون بل لسبب آخر يتعلق بحرصه على موقع الرئاسة الاولى المعقودة اللواء للمسيحيين وبرفضه ان يتحول اسقاط شاغلها عرفاً مقبولاً قبل انتهاء الولاية سواء كان الدافع الى هذا الاسقاط مبرراً وطنياً او انتقامات سياسية ومصالح لا علاقة لها بالوطن وشعبه. طبعاً اعتبر كثيرون موقف صفير هذا، حتى من الذين يتمنون مغادرة الرئيس لحود بعبدا الى بعبدات، مبرراً في السابق. ولكن بعد صدور تقرير ميليس الذي يبقى مهماً رغم الحملات عليه ينتظر دعاة استقالة لحود من البطريرك الماروني موقفاً آخر هو تشجيع الاخير على التنحي لأن استمراره سيحقق قطعاً عكس الاهداف التي دفعت بكركي الى التمسك ببقائه وابرزها تحصين موقع الرئاسة الاولى. وقد شاهد صفير والمسيحيون وكل اللبنانيين ان التمسك ببعبدا جعل امور الدولة تسير من دونه وان من دون نجاح كبير حتى الآن وجعل المجتمعين العربي والدولي يقصران على نحو شبه تام عملهما مع لبنان على رئيس مجلس وزرائه "السني" ورئيس مجلس نوابه الشيعي. ومع الوقت قد يعتاد اللبنانيون هذا الأمر ويتكيفون معه كما قد يعتاده العالمان المذكوران. واي محاولة تصحيح لهذا الواقع لاحقاً لن تكون ناجحة اياً تكن الجهة التي ستقوم بها. ورغم غياب المعلومات الدقيقة عمّا يمكن ان يكون صفير يفكر فيه حالياً فان عدداً من القريبين منه او بالأحرى من متابعي حركته السياسية عن قرب يعتقدون انه صار قاب قوسين أو أدنى من تغيير موقفه السابق او تعديله. لكن يجب الا ينتظر أحد منه اعلاناً رسمياً بذلك. اذ ان التعبير عن هذا التغيير لا يمكن ان يكون الا مداورة أي عبر الاتصالات والمشاورات وربما عبر الصمت كذلك أي عدم المبادرة الى الدفاع في وجه المطالبة بالاستقالة كما كانت حاله سابقاً.
أما في الداخل الاسلامي فان الموقف من رئاسة لحود الممددة ليس واحداً. فالسنة والدروز على وجه الاجمال عبر ممثليهم في البرلمان وحلفائهم من غير المسلمين مع استقالته بخلاف الشيعة الموحدين منذ فترة حول مبادئ ومصالح وقضايا متنوعة. فهؤلاء لم يرفضوا الاستقالة علناً. لكنهم لم يدعموها لاسباب عدة داخلية واقليمية. علماً انهم يقدرون للرئيس الحالي أي لحود مواقفه الوطنية من المقاومة والايجابية من داعميها الاقليميين. وهم لن يدعموها قبل حصول امرين: الأول التوافق مع اللبنانيين الآخرين من سنة ودروز ومسيحيين على قضايا داخلية كثيرة كانت موضع خلاف ولا تزال كذلك. والثاني "موافقة" حلفائهم الاقليميين على الاستقالة او تقلّص قوة هؤلاء الحلفاء وتأثيرهم الأمر الذي يجعل القرار النهائي في هذا الموضوع وغيره رهناً بأصحابه فقط.
يبقى الخارج الاقليمي الذي تمثله في هذه المرحلة سوريا وايران او سوريا ثم ايران. وهذا الخارج لا يزال يواجه المشكلات التي تعترضه بكل الوسائل الأمر الذي جعل حسم الاستحقاق الرئاسي الذي عاد الى الواجهة بغير السهولة التي يعتقدها كثيرون.
كيف يجب ان يتصرف الرئيس لحود الآن بعدما وصلت الحملة المطالبة بتنحيه الى ذروتها ولا سيما بعد صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري؟
المتابعون من خارج للوضع اللبناني بكل تفاصيله ولتشعباته الاقليمية والدولية وبينهم اميركيون يقولون ان سجل الرئيس لحود كان مشرفاً يوم كان ضابطاً في البحرية التابعة للجيش اللبناني. ويقولون ايضاً ان لديه واجباً الآن عليه القيام به، هو الاستقالة من رئاسة الجمهورية وتحمل المسؤولية عن أفعال "معاونيه" أو مرؤوسيه الموجودين في السجن منذ اشهر ووضع نفسه في تصرف القضاء اللبناني.
لماذا لا يستقيل اذاً وبواسطة المنطق نفسه الرئيس السوري بشار الاسد؟ يسأل المتمسكون ببقاء لحود في موقعه الرئاسي. والجواب الذي يقدمه المتابعون اياهم عن ذلك هو الآتي:
- أولاً، لأن احداً في سوريا سواء في الاوساط الشعبية او السياسية او الحزبية لم يطالب باستقالة رئيسها. في حين ان غالبية اللبنانيين (حتى الذين منهم حالوا حتى الآن دون رحيل لحود) طالبت باستقالة رئيس لبنان ولا تزال.
- ثانياً، لأن تغييراً حصل في لبنان لا ينقصه ليكتمل الا تنحي لحود. علماً ان تمسكه بالبقاء لن يلغي التغيير بل قد يؤخره مع ما يصاحب ذلك من اضرار وشلل على مستويات عدة. في حين ان سوريا لم تشهد عملية تغيير مماثلة لما جرى في لبنان. علماً ان التغيير المنشود فيها يحاول ان يقوم به رئيسها وان في غير مجال السياسة ولا يزال الشعب السوري رسمياً على الأقل يطالب بأن يقود رئيسهم عملية التغيير.
- ثالثاً، لأن معاونين اساسيين للرئيس اللبناني اوقفوا للاشتباه بضلوعهم في اغتيال الحريري الأمر الذي يجعله مسؤولاً معنوياً عن اعمالهم فيما لو ثبتت من خلال محاكمة عادلة وتالياً يرمي عليه اعباء معينة. في حين ان في سوريا اشتباهاً بالبعض من القيادات. وثبوت هذا الاشتباه او تبخره يحتاج الى تحقيق مع هذه القيادات او بالأحرى الى الاستماع الى شهاداتهم، ولكن من دون "رواقيب" كما يقال. وهذا أمر لم يحصل حتى الآن. فضلاً عن ان النظام السوري برمته يتمسك بالبراءة من الاغتيال المشار اليه.
- رابعاً، لأن موضوع سوريا بالغ التعقيد ولأنه موضع تشاور وتجاذب دوليين ولأن أي دعوة الى تغيير جذري فيها انطلاقاً من اغتيال الحريري لا بد ان تكون لها انعكاسات متنوعة على سوريا والمنطقة معظمها سلبي ربما. وهذا أمر لا يريد المجتمع الدولي التورط فيه حالياً. علماً ان ذلك لا يعني على الاطلاق تساهل هذا المجتمع في الموضوع اللبناني.