قبل أن أبادر إلى كتابة هذه المقالة تذكّرت عبارة رائعة كتبها الزميل الشهيد سمير قصير في صحيفة «النهار» قبل فترة قصيرة من استشهاده تحت عنوان «بالحسنى...». وفي تلك المقالة الرائعة تساءل الشهيد في سياق انتقاده ممارسات الحكم السوري كيف يمكن للآخرين إنقاذ من يرفض إنقاذ نفسه؟!

اليوم، هذا بالضبط هو وضع المسيحيين اللبنانيين، وبالذات الموارنة، على عتبة القرارات المتصلة بخياراتهم السياسية الحاسمة.

في لبنان حالة استثنائية من الترقب القلق بعد تقريري المحقق الدولي ديتليف ميليس والموفد الدولي تيري رود لارسن، ووسط التطورات غير المريحة عند نقط حدودية مع سورية، ومناخ الشك المتبادل والمؤسف لبنانياً وفلسطينياً وسورياً.

هذه الحالة عجٌلت في إثارة موضوع موقع رئاسة الجمهورية، وبخاصة بعد «اكتمال النصاب» على الساحة المسيحية بعودة الدكتور سمير جعجع والبطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير من اوروبا، وسعي حزب الكتائب اللبنانية الذي كان في يوم من الأيام أكبر القوى السياسية المسيحية نفوذاً وأفضلها تنظيماً، إلى إعادة لم شتاته.

الجدل الثائر راهناً على الساحة المسيحية حول منصب الرئاسة غريب حتى بالمقاييس والاعتبارات اللامعقولة... التي هي في لبنان القاعدة لا الاستثناء.

نتذكر ولا شك، أنه بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري رئيس الحكومة السابق ورفاقه، وجهت جماعات عدة أصابع الاتهام إلى ما وصفته بـ«النظام الأمني اللبناني ـ السوري المشترك»، واعتبرت أن رئيس الجمهورية العماد إميل لحود مسؤول بصورة أو بأخرى عما حدث أو على الأقل عن الجو العام المحيط به.

وكما هو معروف ومعترف به... حصل نوع من الفرز الطائفي، فاصطفت أغلبية المسيحيين (بمختلف طوائفهم) وأغلبية السنة والدروز ضمن المعارضة المنادية بتنحي الرئيس لحّود وسحب القوات السورية وعناصر استخباراتها من لبنان، في حين وقفت أغلبية شيعية مدافعة عن الرئيس وعن دمشق. وتبلور هذا الاصطفاف في يومين تاريخيين من عمر لبنان عندما رد «حزب الله» وحركة «أمل» على الاعتصامات والتظاهرات المعارضة المتواصلة بتظاهرة شعبية حاشدة يوم 8 مارس (آذار) الماضي قيل انها استقطبت نحو ربع مليون مشارك، وخلال أسبوع واحد رد المعارضون على «الرد» بتظاهرة أكبر يوم 14 مارس قيل أنها ضمت أكثر من مليون مشارك. وسياسياً ترجم هذا الاصطفاف بمعسكرين: الأول معارض عرف بـ«لقاء البريستول» (هو اسم الفندق الذي عقدت فيه اجتماعات اللقاء الدورية)، والثاني بـ«لقاء عين التينة» حاملاً اسم الحي الذي يقع فيه مقر رئيس مجلس النواب الرئيس نبيه برّي ...راعي اللقاء.

ولكن الأيام والأسابيع والشهور التالية حملت متغيرات عدة، كما هو معلوم، بينها بدء اشتداد الضغط الدولي من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559، وانسحاب القوات السورية، وإجراء انتخابات عامة في البلاد، وعودة قائد الجيش السابق العماد ميشال عون من منفاه الباريسي بعد إسقاط التهم الصادرة بحقه، ومن ثم نجاحه في الانتخابات التي حرم من خوضها الدكتور سمير جعجع بعد ما أجّل الإفراج عنه إلى ما بعدها.

في ظل هذه المتغيرات حصلت إعادة فرز للقوى الكبرى على الساحة اللبنانية. إذ خرج محازبو العماد عون في «التيار الوطني الحر» من صفوف المعارضة التي اعتبروها منقادة لمشيئة «تيار المستقبل» (بقيادة سعد الدين الحريري) و«اللقاء الديمقراطي» (بقيادة وليد جنبلاط)، وخاضوا معركة تصفية حسابات و«قيادات» ضدها متحالفين مع بعض من كانوا يوصفون برموز «الحقبة السورية». وفي المقابل رفضت كتلتا المعارضة الكبيرتان («المستقبل» و«اللقاء الديمقراطي») عزل الكتلة الشيعية الكبيرة ... بل تحالفتا معها في قوائم مشتركة في بيروت والجنوب وجبل لبنان. وكانت انتخابات دائرتي شمال لبنان ـ الخاليتين من المقاعد الشيعية ـ في آخر محطات الحملة الانتخابية البرلمانية مواجهة في غاية الشراسة بين المعسكرين المتبلورين حديثاً، وانتهت بتصويت سنّي كثيف في الدائرتين ضد قائمتي عون وحلفائه الجدد ... ضمن للمعارضة فوزاً كاسحاً وأغلبية برلمانية مطلقة.

وفي ضوء نتيجة الانتخابات تكرّرت مطالبة «تيار المستقبل» و«اللقاء الديمقراطي» (يضمان أكثر من 20 نائباً مسيحياً) بتنحي رئيس الجمهورية. غير أن هذه المطالبة قوبلت بانتقادات عاصفة من قبل «التيار» العوني وأصوات مسيحية متشددة اعتبرت أنه لا يحق لغير المسيحيين التصرف بمصير أرفع منصب مسيحي في البلاد.

وبالفعل، احتراماً لهذه الحساسية صمت الحريري وجنبلاط وكفّا عن المطالبة تاركين الأمر للمسيحيين أنفسهم. وهنا يجب القول ان اصرار عون على ترديد انه «الزعيم المسيحي الأول»، مما يزكيه للرئاسة، أسهم في تخفيف حماسة الحريري وجنبلاط لتنحية لحود. فهما أصلاً ضد ممارسة «العسكر» السياسة... وعون جنرال متخصص بسلاح المدفعية.

وثانياً يريان أن كل شعارات عون وتصرفاته منذ عودته من المنفى طائفية الغاية وموجهة ضدهما مباشرة.

وثالثاً يشعران بأنه إذا كان تدخلهما في الموضوع الرئاسي سيستغل (بفتح الغين) ضدهما ترويجاً للخيار المسيحي الأكثر تشدداً ...فإنهما لن يسقطا في الفخ بل سيفضلان ترك الكرة في الملعب المسيحي، مع الاحتفاظ بـ«حق الفيتو» ضد من يعتقدان أنه مرشح تحدٍّ.

«حزب الله» و«أمل» أيضاً كانا يتحرٌجان منذ مدة من الخوض في الشأن المسيحي، مع أن قيادتيهما تقفان علناً ضد القرار 1559 الذي ما زال العماد عون يعتبر نفسه «أباه الروحي». وهما بالإضافة إلى ذلك قلقان من تداعيات فترة ما بعد الانسحاب السوري، ولا سيما محاسبة الشق «الوطني» لا الممارساتي من «الحقبة السورية»، ويتخوفان جدياً من استمرار ضغط محور واشنطن ـ باريس باتجاه نزع سلاح المقاومة. وكانت تطورات الأسابيع الأخيرة قد نبّهت عدة شخصيات وقوى لبنانية عاقلة إلى ضرورة لجم أي انفلاتات مشبوهة قد تحدث في المرحلة المقبلة، وفي صميم ذلك منع حدوث تنافر سني ـ شيعي «على الطريقة العراقية» في لبنان.

هنا، كما في موضوع رئاسة الجمهورية، يؤمل من المسيحيين موقف حكيم ومسؤول.

ففي صالح المسيحيين، الذين هم أكبر المستفيدين من لبنان مستقر، استمرار التفاهم السني ـ الشيعي في لبنان. وضد مصلحتهم تماماً أن تؤدي الضغوط الدولية ـ لا قدّر الله ـ إلى تفجير أزمة بين المسلمين اللبنانيين كما يريد ويتمنى بعض المخططين «الليكوديين» (الذين منهم بعض اللبنانيين مع الأسف) في واشنطن وخارجها. والأمثلة التي يمكن سوقها للدلالة على العلاقة العكسية بين الاستقرار الاقليمي وهجرة المسيحيين من العالم العربي كثيرة ... أبرزها ما حل ويحل بمصير إخوتنا المسيحيين في فلسطين والعراق.

المسيحيون اللبنانيون العقلاء ـ وهم كثر ـ واعون لخطورة المرحلة المقبلة على الجميع. وامامهم اليوم مهمة تنبيه الديماغوجيين المتطرفين، الذين تدغدغ غرائزهم هذه الفترة العصيبة من عمر المنطقة، الى مخاطر أوهام «الثأر التاريخي» من التعددية والتعايش الحضاري والانقلاب عليهما، وتذكيرهم بالقول المأثور:

«ماذا يفيد الإنسان إذا ربح العالم ... وخسر نفسه؟».

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)