يمثل الاتهام الذي وجهه المدعي الخاص باتريك فيتزجيرالد لمدير مكتب نائب الرئيس الامريكي لويس ليبي الدليل الأقوى والأكثر وضوحا حتى الآن على العقلية الاجرامية الموجودة داخل إدارة بوش في ما يتعلق بقرار غزو العراق.

ويرتبط الاتهام بضلوع ليبي في الكشف غير القانوني عن هوية عميلة “سي.آي.ايه” السرية فاليري بلام الذي شكل انتهاكا للقانون الامريكي وفي المؤامرة التي اعقبت ذلك الكشف لنفي حقيقة حدوث هذه الجريمة فعلا والتستر عليها. ولكن الجريمة الحقيقية التي تم ارتكابها هنا هي التضليل الذي مارسته إدارة بوش قبل الغزو ولا سيما نشاطات نائب الرئيس ديك تشيني ورئيس موظفي مكتبه “سكوتر” ليبي الأمر الذي يفسر الاسباب التي جعلت بوش وتشيني وموظفيهما يسعون الى الانتقام من السفير السابق جوزيف ويلسون وزوجته بلام.

ويعتبر الكشف عن هوية بلام رأس هذا المشروع الاجرامي فقط. واما التهمة المحددة وهي الإدلاء بافادات زائفة امام هيئة محلفين كبرى فهي في الحقيقة المؤشر الافضل للطبيعة الحقيقية للجرائم التي ارتكبها ليبي وادارة بوش بعامة.

ومن خلال تصرفه نيابة عن نائب الرئيس تشيني كان ليبي شخصية رئيسية وراء دس معلومات استخبارية مشكوك فيها وغير متحقق منها عن وجود اسلحة دمار شامل عراقية في الساحة العامة سواء بتسريب هذه المعلومات الى مراسلين مثل الصحافية في “نيويورك تايمز” جوديت ميلر أو عن طريق الاشارة الى تلك المعلومات خلال احاديث مهمة للرئيس مثل خطاب بوش عن حالة الاتحاد في عام 2003 أو حديث كولن باول الشائن الذي اعتذر عنه أخيراً امام مجلس الأمن الدولي في فبراير/ شباط 2003.

وكان تشيني وليبي وراء القرار بتضليل الكونجرس، ولا سيما تحقيق لجنة مجلس الشيوخ الخاصة بالاستخبارات في الاسباب التي جعلت أجهزة الاستخبارات الامريكية تخطئ الى ذلك الحد بشأن قدرات العراق في مجال اسلحة الدمار الشامل. (خلافا للذريعة التي قدمتها إدارة بوش لتبرير قرارها بغزو العراق لم يتم العثور على اسلحة دمار شامل في العراق واعترفت وكالة “سي. آي. ايه” لاحقاً بأن اسلحة الدمار الشامل العراقية تم تدميرها في صيف عام 1991).

وبالنسبة لتشيني وليبي، ارتكب جوزيف ويلسون الخطيئة الكبرى عندما تحدى ذريعة الرئيس بوش لشن الحرب على العراق بكشفه الطبيعة الاحتيالية لمزاعم الإدارة الامريكية بأن العراق حاول الحصول على اليورانيوم الخام من النيجر.

وإذا صح ان قصة “اليورانيوم الخام” كانت ستعزز تأكيدات الرئيس ونائب الرئيس بأن العراق اعاد احياء برنامجه الخاص بالأسلحة النووية، واعطى بالتالي المسوغ القانوني لشن الحرب عليه. ولكن الحقيقة هي ان زعم شراء العراق “اليورانيوم الخام” شأنه شأن جميع المعلومات الاستخبارية التي نشرها تشيني وليبي قام في هذه الحالة على وثائق مزورة.

ولم تكتف “شلة” تشيني باعتبار فضح ويلسون لهذا التزوير خيانة فقط، بل اعتبرته ايضا تهديدا للعبة برمتها، أي الحجة الملفقة التي ساقتها إدارة بوش لشن الحرب على العراق، وفي حال لم يتم الطعن في أقوال ويلسون فإنها قد تؤدي الى عملية تكشف النقاب عن نسيج الخداع والاكاذيب الذي حاكه تشيني وليبي وإدارة بوش عن تهديد اسلحة دمار شامل عراقية لا وجود لها. وبالنسبة لتشيني وليبي فإن الحقيقة هي العدو وان قائلي الحقيقة يجب الهجوم عليهم وتدميرهم.

وقد انكشفت الاكاذيب الآن ولكن اتهام ليبي يجب ألا يكون الفقرة الاخيرة في قصة الاكاذيب والتضليل الكارثية هذه وبدلا من ذلك، يجب ان يكون الاسهام تعزيزا مطلوبا بدرجة كبيرة للكونجرس والاعلام والشعب الامريكي بعامة للقيام بإعادة بحث شاملة لمجمل العمليات التي حدثت خلال الفترة التي سبقت غزو العراق. وإن أكاذيب تشيني وليبي وإدارة بوش بشأن اسلحة الدمار الشامل العراقية لم تأت من فراغ، فالمراقبة والاشراف من قبل الكونجرس ولا سيما في شكل لجان مراقبة ذات صلة لم تكن موجودة. وأما الجلسات القليلة التي تم عقدها فلم تزد على كونها جلسات خداع تم تصميمها لتضخيم حجة الحرب التي تم قبولها لقيمتها الظاهرية، على الرغم من حقيقة ان جميع الضالعين في الأمر عرفوا ان الأدلة المؤيدة كانت إما غير موجودة أو انها هزيلة للغاية.

ويقف الشعب الأمريكي على الطرف الآخر من شبكة الأكاذيب هذه شديدة التعقيد والعجز. وبعد خداع الشعب ودفعه لحرب أدت حتى الآن الى مصرع اكثر من 2000 فرد من افراد القوات المسلحة. (ناهيك عن المئات من جنود شركائنا في التحالف وعشرات الآلاف من العراقيين) فإن السؤال المطروح حالياً يتعلق بالطريقة التي سيرد من خلالها مواطنو أقوى ديمقراطية تمثيلية في العالم.

وفي غياب رد فعل قوي من الشعب الامريكي رداً على التزوير والتضليل المتعمد الذي انكشف في ما يتعلق بغزو العراق يصبح اتهام ليبي فاقدا للأهمية.

يجب ان يكون هناك تحقيق أوسع نطاقاً في مجمل المؤامرة الاجرامية التي نفذتها إدارة بوش لخداع الكونجرس والشعب الامريكي في ما يتعلق بغزو العراق ولا سيما الحجة التي تم استخدامها لغزو ذلك البلد. وان الجريمة التي تم ارتكابها تتجاوز بكثير الكشف عن ارتباط زوجة دبلوماسي مارق بوكالة “سي.آي.ايه” حتى وان كانت جريمة كشف هويتها خطيرة حسب القانون. وتمثل الطريقة المتعمدة والمنظمة التي عمدت إدارة بوش ابتداء من الرئيس وحتى موظفي الدرجات الدنيا الى تقديم معلومات مضللة ومشوهة وملفقة الى الكونجرس والشعب الامريكي اعتداء مباشراً على نظام الحكم ذاته الذي تعلن الولايات المتحدة الأمريكية انها تناصره.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)