يوم انعقد مجلس الأمن لمناقشة قراره الجديد، على ضوء تقرير ديتليف ميليس المحقق الدولي في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، تجمع سكان دمشق في المنازل حول أجهزة التلفزيون يتابعون المداولات والتصويت والكلمات والمناقشات. استقطب الحدث اهتمامهم، ولم يكن ذلك عبثا، فالقرار يناقش مصير بلدهم ويتعلق بحياتهم ومستقبلهم.

قبل ذلك بأيام، وبالتحديد يوم 16/10/2005، أي قبل خمسة أيام فقط من تسليم تقرير ميليس إلى الأمين العام للأمم المتحدة، صدر بيان يدعو إلى «التغيير»، ويحمل اسم «إعلان دمشق»، وقعته خمسة أحزاب معارضة تنضوي تحت اسم (التجمع الوطني الديمقراطي). ووقعه جزء من (لجان إحياء المجتمع المدني). ووقعه تجمعان كرديان، إضافة إلى تسعة أشخاص وقعوا بأسمائهم. ومع أن دمشق اعتادت على صدور بيانات معارضة، إلا أن هذا البيان كانت له نكهة خاصة:

أولا: كان توقيته لافتا للنظر، إذ كان الكل يعرف أن ميليس يعد تقريره، وأنه سيقدمه بعد أيام، وسط جو مشحون يوحي بأن التقرير سيتهم سوريا، وقد يثير حولها ضجة دولية.

ثانيا: كانت البيانات السابقة تدعو إلى «الإصلاح» وإذ بهذا البيان يصدر داعيا إلى «التغيير»، حتى أن البعض أطلق عليه وصف «البيان رقم واحد».

ثالثا: يشكل الموقعون على البيان خليطا من :الناصريين، ومن اليساريين، ومن الماركسيين، ومن البعثيين المعارضين، ومن بعض الأحزاب الكردية، وانضم إليهم في اليوم التالي الإخوان المسلمون الذين أعلنوا من لندن أنهم يؤيدون البيان، وينضمون إليه، وراجت شائعة تقول إن الإخوان المسلمين شاركوا في إعداد الإعلان، واختاروا هذه الطريقة لتأييده ومساندته.

رابعا: كانت بيانات المعارضة السابقة، تلقى بعد صدورها، مواقف تأييد من الجهات المعارضة الأخرى. أما «إعلان دمشق» الجديد، فقد تكونت حوله ظاهرة مختلفة، فقد أحدث انقساما داخل أحزاب موقعة عليه، ودفعت بعض أطراف المعارضة إلى الرد عليه، وأحيانا إلى التنصل منه، جنبا إلى جنب مع بيانات تأييد المعارضين له.

خامسا: نتجت عن هذا الوضع حالة من النقاش السياسي الواسع، ليس في دمشق وحدها بل في سوريا كلها، وتجاوز النقاش لأول مرة، مواقف الإدانة أو التأييد للحكم القائم، إلى مناقشة قضايا اعتبر أصحابها أنها تخص سوريا، وتخص بنية الشعب السوري، وتخص هويته، أكثر مما تخص العلاقة ضد أو مع النظام الحاكم.

سادسا: كانت بيانات المعارضة السابقة تعبر عن مواقف سياسية، ولم تحاول أن تأخذ أبدا شكلا تنظيميا. كانت تسعى إلى إعلان الرأي وشرحه، وتكتفي بذلك. أما أصحاب «الإعلان» الجديد، فقد أعلنوا بعد أسبوعين من صدوره، أنهم شكلوا لجنة للمتابعة، ستدرس أولا مواقف الجهات التي أيدت الإعلان (من اميركا واوروبا وسوريا)، وتبحث إمكانية ضمهم إليها. وستبحث تاليا في تمثيل هؤلاء في لجنة المتابعة بحيث تصبح لجنة دائمة. وهذه خطوة تنظيمية لافتة وجديدة من نوعها. فهل هي مدخل لتشكيل قيادة لـ «التغيير»؟.

بعد هذه الملاحظات ننتقل إلى تسجيل أبرز ما دار من حوار حول الإعلان:

أصحاب الإعلان والمدافعون عنه قالوا بلسان المحامي حسن عبد العظيم الناطق الرسمي باسم (التجمع الوطني الديمقراطي ـ خمسة أحزاب): إن هذا الإعلان هو لنقل سوريا من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، ويمهد لمؤتمر وطني. وأكد أنه ستوضع آليات عمل لتطبيق هذا الإعلان والتوافقات الواردة فيه.

وقال جورج صبره عضو قيادة التجمع، إن هذا الإعلان يحوي خطة واضحة، وهو مفتوح لجميع القوى الوطنية، وهو دعوة لكل من يقبل التغيير من النظام والمعارضة، أفرادا وجماعات، من أجل تكوين ائتلاف شعبي ديمقراطي، يضع برنامجا للانتقال بسوريا من دولة أمنية إلى دولة سياسية.

وقال ميشيل كيلو عضو لجان إحياء المجتمع المدني، إن الإعلان هو استمرار للخط الوطني الديمقراطي الذي يريد إخراج سوريا من المأزق الداخلي والخطر الخارجي، وإعادة بنائها كبلد للحرية والمواطنة، يتساوى فيها الجميع أمام القانون.

أما المعارضون للإعلان.... فقد قرأوا الإعلان ودققوا فيه، وكانت لهم اجتهادات وتوجهات أخرى.

يوم 22/10/2005، صدر في دمشق بيان فريق من (لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا)، وحمل عنوان «قراءة نقدية في إعلان دمشق». سجل البيان أنه يؤيد جميع النقاط الواردة في «الإعلان» حول: رفض احتكار السلطة، والخروج من صيغة الدولة الأمنية إلى الدولة السياسية، واعتماد الديمقراطية، وضمان حقوق الأقليات القومية في التعبير عن نفسها .... الخ، ولكنه أضاف: إن هذه المطالب والأسس قد تم إلغاؤها وتفريغها من مضامينها حين اكتفى الإعلان بفقرة واحدة تقول «ضمان حق العمل السياسي لجميع مكونات الشعب السوري على اختلاف الانتماءات الدينية والقومية والمذهبية»، أي العودة بنا إلى تحقيق ديمقراطية التراصف الطائفي والإثني والعشائري، والتي تحمل في ثناياها بذور التفتيت والتشظي والحروب الأهلية.

وأضاف هذا البيان: اللافت في هذا «الإعلان» أنه يتجنب ذكر الولايات المتحدة الأميركية ولو بكلمة واحدة..... إن هذا المنطق يحرف مسار العمل الوطني عن وجهته الصحيحة، الذي لا ينبغي أن يكتفي بالتصدي لفضح أنظمة الاستبداد في الداخل، بل يتعداها ليطاول الاستعمار أيضا».

وفي 18/10/2005 أصدرت (رابطة الوطنيين الديمقراطيين) في مدينة دير الزور (شمال سوريا) بيانا تساءلت فيه: أين دور الخارج في الأزمة الخانقة التي تعاني منها سوريا؟ هل الأزمة حقا، هي فقط، بفعل الوضع الداخلي (الاستبداد)؟ وإذا كان غير ذلك فلماذا غيّب البيان المشروع الأميركي الصهيوني (مشروع الشرق الأوسط الكبير) وما يستهدف به المنطقة؟

ويتساءل هذا البيان: لقد جاء في «الإعلان» إن الهوية العربية السورية هي جزء من (منظومة عربية)، فهل سوريا جزء من «منظومة» أم هي جزء من تكوين تاريخي من موضوع «الأمة»؟.

وفي 21/10/2005 صدر بيان يحمل توقيع (أعضاء في الحزب الشيوعي السوري ــ المكتب السياسي) يبدو أنهم منشقون عن حزب السيد رياض الترك، جاء فيه: الآن أصبحت المسألة أبعد من النظام. هناك حاجة، من بعض أطراف المعارضة السورية، إلى سياسات لا تكرر تجربة المعارضة العراقية في عام 2003، تؤكد عبرها طابعها الوطني، وحرصها على أن لا تشكل غطاء للاحتلال. ونعلن هنا ..... أننا نقف في خندق واحد مع كل سوري يقف ضد هذه الحملة الأميركية.

وصدر في دمشق بيان آخر حمل عنوان (الوطن في خطر)، يمكن اعتباره بيانا مضادا، حمل توقيع 57 شخصية سياسية وفكرية، طالبا مساهمة من يريد التوقيع على البيان، وجاء فيه: إن التهديدات الأميركية ــ الصهيونية تستهدف سوريا، وإن الوطن في خطر، وثمة من يبشر بتحطيمه فوق رؤوس ابنائه تحت دعاوى براقة زائفة، استهدافها الوحيد إلحاق سوريا بالمشروع الأميركي. ونبه البيان إلى أن الالتحاق الأعمى بالمشروع الأميركي ــ الصهيوني تحت بند الاستثمار السياسي الأحمق لضغوط الخارج، يمثل خطرا شديدا على الشعب السوري ووحدته الوطنية، والوطن كله. وطالب البيان بحوار يفضي إلى مؤتمر وطني عام، ومطالبة الدولة بالإسراع في إجراء إصلاح سياسي شامل، مركزا على مطالبة الحكومة بتحقيق مطالب الجماهير الاقتصادية والاجتماعية.

تؤشر هذه العينات إلى نمط الحوار السياسي الدائر في سوريا الآن، وهو حوار يدور في كل بيت، وفي كل مقهى يلتقي عند طاولاته عدد من الأصدقاء. وهو حوار من نوع جديد، ينتقل فيه البعض من دعوة الإصلاح إلى دعوة التغيير، ويطالب فيه البعض بالحرص على الوطن والوقوف في وجه الحملات الخارجية، التحذير من الوقوع في حبائلها. إن دمشق تغلي وتمور، ولم يعد حوار مثقفيها نوعا من الجدل أو مجرد تحديد المواقف، إذ يشعر الجميع الآن أنهم أصبحوا على أبواب قرار بالانحياز. والانحياز يعني المواجهة، أحيانا بين المعارضين والسلطة، وأحيانا بين المعارضين أنفسهم.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)