جاء القرار 1636 تتويجاً للضغوط الدولية المستمرة على سوريا، حيث يُلزم القرار القيادة السورية بالتعاون الكامل وغير المشروط مع <<اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الإرهابي>> الذي أودى بحياة رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ورفاقه. وبالرغم من التعديلات التي أُدخلت على مشروع القرار لضمان التوصل الى الاجماع، فإن استناد القرار الى الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة يحفظ للمجلس حق إصدار قرارات عقابية لاحقة ما لم تمتثل سوريا حرفياً لمضمونه.

والخطير في الأمر أن القرار حظي بإجماع 15 دولة، ويستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو يعني وضع النظام السوري تحت مجهر المراقبة الدولية لمدة زمنية قصيرة تنتهي في 15 كانون الأول المقبل، الأمر الذي يعني، وفق منطق السياسة، استدراج النظام السوري إلى دائرة مغلقة، توفر للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا مساحة مناسبة للمناورة والضغط باتجاهات لا تتعلّق بالضرورة مع موضوع جريمة الاغتيال.

ويأتي القرار 1636 ليزيد من الاضطراب الواسع الذي أحدثه تقرير ميليس في الأوساط الإعلامية والسياسية العربية، وبالأخصّ في سوريا، سواء على المستوى الرسمي أم المستوى الشعبي، حيث أخذ بسطاء الناس في سوريا يتساءلون بقلق وأسى، وبشيء من الشعور بالإحباط: تُرى، إلى أين نحن ذاهبون؟

لكن السؤال الذي يُطرح بقوة على الطبقة السياسية هو: ماذا بعد القرار 1636؟ وما العمل؟

وقد انبرى للإجابة عن هذه الأسئلة وسواها العديد من السياسيين والكتّاب والمحللين، حيث ذهب بعضهم إلى القول بأن منطقة الشرق الأوسط باتت تعيش اليوم وضعاً جديداً، وينتظرها تاريخ جديد، وسيُعاد تشكيلها وفق خريطة جيوسياسية جديدة. بينما ذهب آخرون إلى كيل التهم، والاستناد إلى مقولات تبيّن هول وضخامة المؤامرة التي تُحاك ضد سوريا والمنطقة العربية، وارتاح قسم منهم إلى نظرية المؤامرة التي تسكن عقولهم. لكن المهتمين بالشأن العام في سوريا يسكنهم همّ التساؤل عما إذا كنا قادرين على فعل شيء ما، وهل النظام السوري على مستوى التحديات التي تواجهه؟ وهل هو قادر كذلك على تحمّل تبعات هذا القرار الدولي؟

إن ما بعد القرار 1636 لم يبدأ بعد، ولا يسكن الإدارة الأميركية هاجس معرفة من الذي ارتكب جريمة الاغتيال بقدر ما يهمّها مقدار التوظيف الذي ستمارسه خدمة لأجندتها في المنطقة، كونها تعوّدت النظر إلى الأمور من زاوية المصالح، وخصوصاً الفوائد والمكتسبات، وبالتالي فهي غير معنية بالعدالة والشفافية والقضاء النزيه، فالأمر مرتبط بالقدرة على توظيف العدالة خدمة لمشروعات أخرى. ولا شكّ في أن القرارات المناسبة للولايات المتحدة مختلفة مع ما تُبديه الدول الأخرى من مخاوف وتوجّسات، لكن المسألة تجاوزت حدود نوايا دول مجلس الأمن، كما تجاوزت تقرير ميليس ذاته، وغدا السؤال اليوم <<ماذا بعد القرار 1636؟>> مبرراً ويمتلك وجاهته المحددة.

وقد تبين من مناقشة دول مجلس الأمن لتقرير ميليس أن كل دولة تضع في جدول أعمالها جملة من الحسابات غير بعيدة عن السياسة. وهذا أمر طبيعي يتعلّق بحساسية موضوع التقرير وبخطورته التي تتعدى اتهامات عرقلة العدالة لتطاول التوظيفات السياسية المحتملة من جانب الولايات المتحدة الأميركية لتمرير مشروع قرار يتعدّى جريمة الاغتيال والمسؤولين عن تنفيذها والتخطيط لها.

واستطاعت الولايات المتحدة أن تتجاوز مسألة التقرير إلى مسألة أخرى، أوسع من مساحة لبنان، وأكبر من قدرات المنطقة العربية على تحمّل تداعياتها. وهي تدير منذ مدّة أزمة مع النظام السياسي في سوريا. ومع تسارع هذه الأزمة يحضر بقوة التساؤل عن العجز في إدارة الأزمة أو في معالجتها، ليطاول الممارسات التي صدرت عنه خلال عشرات السنوات التي خلت من قبل، ولم نحصد منها سوى المزيد من الانهيار والتردي، وعن الذي عمل على تقويض القوى الحية في الداخل، وقوّض معها مختلف الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

لقد كان من يهمّه الوطن وناسه يعاني من الإهمال والتهميش والإقصاء، فيما كان يعيث من لا يعنيه سوى همه الخاص، فساداً، فانتهى الأمر إلى مزيد من التفكك والانهيار، وغابت السياسة وانتفى الاجتماع، ولا ثقة قامت، ولا مصداقية نهضت، ولا شرعية نالت رضى الجميع.

في المقابل، جرت عمليات غلق النظام من طرف بعض الفئات المستفيدة، التي نشرت الفساد والإفساد، حتى صار القرب من النظام يُقاس بمدى الانخراط في هذه الآلية. وفيما كان العالم كله يتغيّر نحو المزيد من الانفتاح والديموقراطية، فإن النخب المسيطرة على مقدرات البلاد وعلى رقاب العباد بقيت تقف بعناد في وجه أية محاولة إصلاحية، وفي وجه أية دعوة لتغيير واقع الحال من لدن المفكرين والمثقفين السوريين، وصوّرت نفسها كجهة وحيدة معنية بكل شيء، لا ترى غير صورتها في المرآة الاجتماعية، ولا تسمع سوى صوتها، ولا تقرّ إلا برأيها، فعمقت فلسفة أحادية، ضربت كل ممكنات التعدد والاختلاف. وفيما كانت البقية الباقية من الأصوات الحية تنادي بالإصلاح والتغيير، فإن النخب الحاكمة دافعت عن التوقف عند حدود الإبقاء على ما هو قائم وراهن، وذلك من منطلق أن أي انفتاح على الشعب قد يقود إلى خلق أوضاع تصعب السيطرة عليها، وبالتالي قد لا تستطيع الأجهزة الأمنية ضبط ما قد تنتجه أجواء الحريات.

إن ما بعد القرار 1636 عليه أن يصبّ في الاتجاه نحو الداخل، أي في مصلحة الانفتاح والمشاركة السياسية، وفي مصلحة خلق أوضاع اقتصادية تعمل على تحسين الوضع المعيشي للمواطن السوري، وفي سبيل تمكين البلد من التغلّب على التحديات الكبيرة التي ستواجهه. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تهيئة مناخ الانفتاح السياسي على القوى الحية في المجتمع السوري، وإزالة كل معيقات تنشيط وتنمية الحياة الفكرية والسياسية التي تجسّد حرية التعبير والممارسات المدنية والحقوقية لكافة أفراد الشعب السوري.

من هنا تأتي ضرورة العمل على منهجة طريق التحوّل السلمي نحو الديموقراطية والإصلاح، وفق خطوات تدريجية مدروسة، وبما يتفق واستحقاقات مواجهة الوضع المستجدّ على المستويين: الإقليمي والعالمي.

إن الشعب السوري قادر على التفكير بما ينتظر البلاد في مرحلة ما بعد القرار 1636، وهو أهل بالمسؤولية الوطنية والتاريخية، ويعرف تماماً أن المرحلة الراهنة هي الأشد خطورة على سوريا، وهي الأكثر إلحاحاً لإنتاج مشروع تغيير وطني ديموقراطي، يمكنه التصدي للاستحقاقات والتحديات الكبرى التي تواجه سوريا اليوم. وكل ما نخشاه هو الاستمرار في التخبّط بين ردود الأفعال التي تزيد من الأزمة بدلاً من العمل على حلها.

مصادر
السفير (لبنان)