لا أدري لماذا كلما أسمع اسم مجلس الأمن الدولي تتبادر إلى ذهني أجهزة الأمن العربية الرهيبة التي ارتبط اسمها في عقل الإنسان العربي ليس بتوفير الأمن والأمان للناس بل بإرهابهم وابتزازهم وبث الرعب في قلوبهم والتنكيل بهم وتلفيق التهم والتقارير الأمنية لهم وسوقهم إلى بيوت الأشباح والمعتقلات السرية بناء على معلومات كاذبة أو تزوير أو فبركات أو وشاية مغرضة أو انتقام منهم لأغراض أخرى لا علاقة لها أبداً بالمزاعم التي عوقبوا بسببها. وقد امتازت الأجهزة العربية بأنها تلعب دور المدعي والشرطي والقاضي والسجان في آن واحد(بتاع كلــّو)، فهي التي تدعي على المطلوبين وهي التي تداهم منازلهم وهي التي تقودهم مكبلي الأيدي إلى مراكز التحقيق وهي التي تقوم بتعذيبهم والاقتصاص منهم بطرقها "الفنية" المعهودة في أقبيتها المظلمة التي لا ترى الشمس أبداً حيث يقضون هناك عشرات السنين دون أن يتمكن ذووهم حتى من معرفة مكان احتجازهم أو سبب اختطافهم.

ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية الأمنية الفاشية التي اتبعتها الأجهزة العربية على مدى السنين أصبحت الملهم لمجلس الأمن الدولي، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة حيث استعادت الأمم المتحدة نشاطها بعد عقود من الجمود والخمول بسبب الصراع بين الشرق والغرب. بعبارة أخرى فإن المنظمة الدولية تعطلت في الوقت الخطأ ونشطت في الوقت الخطأ. فقد كان من المفترض أن تكون فترة الحرب الباردة العصر الديمقراطي الذهبي للأمم المتحدة، حيث كانت كل شروط اللعبة الديمقراطية الدولية متوافرة لقيام برلمان دولي متوازن، فكانت الموالاة والمعارضة ممثلتين خير تمثيل في الولايات المتحدة وتوابعها من جهة والاتحاد السوفييتي وأتباعه من جهة أخرى. وبالتالي كان يمكن للقضايا الدولية المطروحة على مجلس الأمن أن تـُحل بطريقة ديمقراطية رائعة. لكن الذي حصل أن الأمم المتحدة في تلك الأيام الخوالي كانت أشبه بفيل أبيض، أي عبارة عن صرح عظيم لكن بلا فائدة تـُذكر، وكأن القوتين المتصارعتين وقتها كانتا تريدان أن تقولا للعالم إن آخر شيء نفكر فيه هو إدارة شؤون المعمورة بطريقة ديمقراطية عادلة ومتوازنة. ولهذا السبب فإننا شللنا حركة المنظمة الدولية وجعلناها خاوية على عروشها، مما حدا بالزعيم الفرنسي الشهير شارل ديغول إلى وصف مجلس الأمن وقتها "بذلك الشيء التافه".

لقد عكست فترة السُبات الرهيبة التي عاشتها الأمم المتحدة أيام الحرب الباردة تلك النزعة الديكتاتورية التسلطية الانفرادية المتوحشة لدى القوتين العظميين اللتين كانتا تمقتان أي حلول ديمقراطية منصفة لمشاكل العالم، وكانتا تنتظران بفارغ الصبر أن تنفردا بإدارة الكون كما ينفرد الطغاة والمستبدون بحكم بلدانهم وإدارتها بطريقة شمولية جهنمية. وهذا ما حصل فعلاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بحكم العالم، فراحت تمارس أبشع أنواع الديكتاتورية والاستبداد في التاريخ بما يلازم ذلك من إرهاب وترهيب وتسلط و"بلطجة" وتنكيل. هل أخطأ أحدهم عندما اقترح إعادة تسمية مجلس الأمن الدولي ليصبح: مجلس الإرهاب الدولي؟

فكما جعلت الأنظمة الشمولية من أجهزة الأمن المرجع الأول والأخير وفضلتها "على العالمين" وسلـــّطتها فوق رقاب العباد والبلاد كي ترهبها وتقمعها وتتسلط عليها كما يحلو لها حفاظاً على مصالح الطواغيت وأهوائهم وأطلقت يدها كي تعيث خراباً وفساداً دون حسيب أو رقيب، ها هي الولايات المتحدة تسخـّر مجلس الأمن الدولي،الأشبه بجهاز أمن الدولة لدى الأنظمة التوتاليتارية، كي يكون أداتها في بسط سيطرتها على العالم ومعاقبة كل من يخرج على إملاءاتها وخطوطها الحمراء ويعرقل مخططاتها أو يهدد مصالحها حتى لو بعد خمسين عاماً. لاحظوا سيطرة الجانب الأمني في الاستراتيجيتين الديكتاتورية والدولية. فكما أن الأجهزة الأمنية تعطل السلطات الثلاث وتشلها لتصبح الحاكمة بأمرها، فإن مجلس "الأمن" الدولي يختزل المنظمة الدولية ويصادر إرادتها بالرغم من أن أعضاءه لا يمثلون سوى خمس دول من مجموع دول العالم البالغ مائة وواحداً وتسعين بلداً!!

لقد غدت الأمم المتحدة نسخة طبق الأصل عن الأنظمة الديكتاتورية في العالم، فديمقراطيتها المعروفة بلعبة التصويت والفيتو لا تختلف كثيراً عن الطريقة التي تـُدار بها البرلمانات العربية المزعومة حيث ترى أعضاء مجالس الشورى ومجالس الشعب يرفعون أيديهم دفعة واحدة كما لو كانوا جوقة من عازفي الكمان للمصادقة أو البصم على هذا الفرمان أو ذاك. وكذلك الأمر بالنسبة للتصويت في المنظمة الدولية، فالأعضاء الدائمون قلما يختلفون إلا على الطرائد والفرائس. وقد شاهدناهم يتنازعون أيام التحضير لغزو العراق كما حصل بين أمريكا وفرنسا لكن سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها بين باريس وواشنطن حيث تلتقي المصالح الاستعمارية أكثر مما تتنافر. أما بقية أعضاء الأمم المتحدة فهم أشبه بلغة التمثيل بالكومبارس ولا يختلفون كثيراً عن أعضاء البرلمانات العربية الغراء حيث يتم تطويع كل من يدخل تلك المجالس الفارغة من أي مضمون بطرق عدة، إما بالترهيب الأمني أو شراء الضمائر أو المساومات أو الرشاوى أو الصفقات بحيث يكون تحقيق الإجماع بشأن أي قضية مسألة مضمونة من بدايتها حتى نهايتها.

وعلى ما يبدو أن المشاغبات البسيطة،على هزالتها، التي شهدتها الأمم المتحدة بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة وبقية الدول من جهة أخرى قبيل غزو العراق كانت بمقاييس اليوم "ديمقراطية" للغاية إذا ما قورنت بالوضع الحالي مع سوريا، حيث أصبح اتخاذ قرارات بالإجماع مثل شرب الماء كما شاهدنا عندما صوتوا على القرار 1636، مما يذكرنا تماماً بنتائج الاستفتاءات العربية وبعملية اتخاذ القرارات في "الجمعيات الوطنية" العربية حيث الإجماع العام هو القاعدة. أما الاعتراض فهو للاستهلاك الكلامي فقط.

وبالعودة إلى مجلس الأمن الدولي وتشابهه مع أجهزة الأمن العربية نرى أن اللعبة الأمنية البغيضة هي التي تتحكم في سير عمل المنظمة الدولية. فكما تتولى أجهزة الأمن مهمة الإدعاء على المغضوب عليهم وفبركة التقارير ضدهم أو في أحسن الأحول ملاحقتهم على أساس تقارير مشكوك في صحتها في بعض الأحايين، يقوم بعض الأعضاء الدائمين، وبالتحديد أمريكا وبريطانيا وفرنسا في المجلس، بالتقدم بمشروع قرار لمعاقبة هذه الدولة أوتلك يكون في أحيان كثيرة مستنداً إلى تقارير كاذبة وملفقة ومصالح مشتركة كما حدث مع إزعومة أسلحة الدمار الشامل العراقية التي اختلقها الأمريكيون واعترفوا فيما بعد بأنهم كذبوا بشأنها. وأصبح أي تقرير يصدر عن المجلس مشبوهاً وملفقاً أشبه بالتقارير الأمنية المزيفة التي كان يُقصد منها الإساءة والإيقاع بفلان وعلان من الناس. فكما كانت نتيجة التلفيق الأمريكي لتقارير كاذبة حول العراق غزو البلاد وإعادتها إلى العصر الحجري كما توعد رامسفيلد فإن ألوفاً من الأبرياء قضوا نحبهم أو قبعوا في زنازين جهنمية لعقود بأكملها بسبب تقرير أمني مزيف أو مفبرك لفقه "أحد أولاد الحلال" وتلقفته الأجهزة كي تجعل من المعني به أثراً بعد عين!

وكما تضغط الأجهزة الأمنية على السلطات التنفيذية والتشريعية في البلاد العربية لتمرير هذا المرسوم أو ذاك فإن المتحكمين بمجلس الأمن يعرفون كيف يطوعون الأعضاء غير الدائمين أو الجمعية العامة أو حتى بعض الأعضاء الدائمين عندما يريدون فرض قرارات وإلزام بعض الدول بتنفيذها. فالمراهنة على الفيتو الروسي أو الصيني كالمراهنة على الماء في الغربال بعد أن غدا إرضاء واشنطن بالنسبة لبكين وموسكو أهم من الوقوف إلى جانب القضايا العادلة بألف مرة. وقد شاهدنا كيف صادقت روسيا على بعض القرارات المتعلقة بالعراق بالرغم من قيام الرئيس العراقي السابق برشوة الروس بعقود نفطية بقيمة أربعين مليار دولار. فالمسألة بالنسبة لروسيا أو الصين ليست مسألة تحقيق العدالة الدولية أو موازنة الثقل الأمريكي على طريقة المعارضة الديمقراطية التي يجب أن تسود في المنظمة الدولية بل مسألة مصالح وتقاسم الغنائم بالدرجة الأولى.

وهذه اللعبة المفضوحة لم تعد تنطلي حتى على تلاميذ المدارس نظراً لانحطاط "الشرعية الدولية" إلى الدرك الأسفل. ولا أدري لماذا يسمونها شرعية دولية إذا كانت في الأصل ديكتاتورية القلة المتحكمة بمفاصل هذا العالم الذي يرزح تحت طغيان دولي لا يخفى على أحد، خاصة بعد أن اختفى القطب الدولي الثاني بانتهاء الحرب الباردة وتحول الأعضاء الخمسة الدائمون إلى جوقة متناغمة في المصالح والتوجهات بعيدة عن الديمقراطية بعد الشمس عن الأرض. فبينما تتبجح أمريكا بأنها الديمقراطية الأولى في العالم تمارس في المنظمة الدولية بالتواطؤ مع الأعضاء الدائمين شريعة الغاب واستبداداً عز نظيره تاريخياً! ألا تتجلى الديكتاتورية في أوضح صورها في مجلس إدارة العالم؟ يتهمون الأنظمة الديكتاتورية بأنها تحكم على أسسس قبلية وعشائرية وطائفية بينما يديرون الحكومة العالمية بطريقة مافياوية أقلوية بامتياز؟

وكما تقوم أجهزة القمع والمنع العربية بفرض القوانين بالقوة الظاهرة والمستترة على المغضوب عليهم وتعمل على إنزال العقوبات بهم بموجب تلك الفرمانات المفبركة من رأسها حتى أخمص قدميها، فإن الدول التي تقدمت بمشاريع القرارات ومررتها هي التي تتولى عملية التنفيذ والعقاب. وقد شاهدنا كيف تم استصدار القرارات بشأن العراق وكيف نفذتها الولايات المتحدة بالقوة الجهنمية تماماً كما تفعل أجهزة البطش والتنكيل في مجتمعاتنا العربية. وهاهم يعيدون الكرّة الآن مع سوريا وبنفس السيناريو القائم على القوة الغاشمة والغشيمة و"البلطجة" المنفلتة من أي ضوابط.

هل يمكن لنا أن نلوم بعد كل ذلك مجتمع الحيوان على الاحتكام إلى شريعة الوحوش؟ لعل شطر بيت المتنبي الشهير الموجه لسيف الدولة الحمداني يلخص وضع الأمم المتحدة خير تلخيص:" فيك الخصام وأنت الخصم والحكم" والجلادُ المنتقمُ. هل نعتذر من الشاعر على التلاعب بالقافية؟ ألم يتلاعب مجلس الطغيان الدولي وما زال يتلاعب بمصائر أوطان وشعوب دون أن يرمش له جفن؟