فُتح باب الاستحقاق الرئاسي على مصراعيه من جديد بعد أشهر قليلة من اغلاقه. لكن ذلك لا يعني ان حسمه صار في متناول الجهات السياسية المتنوعة التي رفضت التمديد لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود في أواخر الصيف الماضي والتي انطلقت منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في تشرين الأول 2004 ثم من قتل الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط الماضي لانهاء هذا التمديد وللاتيان برئيس جديد للبلاد يمثل الواقع الجديد في لبنان، أي واقع 14 آذار وواقع 26 نيسان ثم واقع الاقتراب من اكتشاف المتورطين في اغتيال الحريري امرة وتخطيطاً وتنفيذا. فالبطريركية المارونية التي حملت صليب التصدي المباشر للواقع المحلي المهترئ والواقع السوري المهيمن منذ عام 2000 وغطت بعباءة شاغلها مار نصر الله بطرس صفير المعارضين اللبنانيين كلهم ولاسيما منهم المسيحيون سواء كانوا في السجن الداخلي الصغير او في السجن الكبير او في المنفى، هذه البطريركية لم تقل كلمتها الحاسمة والنهائية في هذا الموضوع حتى الآن. علماً ان علاقتها بالرئيس لحود لم تكن جيدة اثناء ولايته "الشرعية". وكانت ضد تمديد هذه الولاية وضد من فرضها على اللبنانيين. وهي ليست من حيث المبدأ ضد تغيير في الرئاسة الاولى يواكب التحول الكبير بل الجذري الذي بدأ في لبنان منذ انسحاب سوريا منه منذ أكثر من ستة أشهر. و"التيار الوطني الحر" بزعامة العماد ميشال عون لا يزال يؤمن الحماية لبقاء لحود في موقعه الرئاسي ليس حباً به بل انتظاراً لقبول الفاعليات السياسية الأساسية اللبنانية به بديلاً وحيداً منه. ومن دون هاتين المرجعيتين المسيحيتين و"الوطنيتين" الدينية والشعبية لا يمكن حسم الاستحقاق الرئاسي او بته ذلك ان التركيبة الديموغرافية في البلاد أي الشعبية البالغة التعقيد والانقسام وخصوصاً من الناحيتين الطائفية والمذهبية تفرض ان يكون رئيس لبنان المقبل المسيحي الماروني ممثلاً لغالبية المسيحيين في البلاد مباشرة أو مداورة ولا سيما بعدما فرضت الغالبية عند كل من السنة والشيعة اللبنانيين من يمثل كلاً منها في رئاستي مجلس النواب ومجلس الوزراء.

كيف يحسم في ضوء كل ذلك موضوع الاستحقاق الرئاسي؟

يحسم هذا الموضوع بطريقة من اثنتين. الأولى، اتفاق المرجعيتين المسيحيتين و"الوطنيتين" المذكورتين اعلاه على أمرين. الأول، ضرورة تنحي الرئيس لحود عن موقعه لأن استمراره فيه لا بد ان يلحق المزيد من الضرر ليس بلبنان فحسب بل ايضاً بدور المسيحيين الفاعل في البلاد وخصوصاً بعد التهميش الذي تعرض له سواء بسبب ممارسات قيادات مسيحية عدة سياسية ورسمية او بسبب تصرف قيادات غير مسيحية سياسية ورسمية او للسببين معاً. والثاني، الاتفاق على الشخص الذي سيحل في قصر بعبدا مكان لحود والذي يستطيع بالصفات الحميدة التي يتمتع بها وبالثقة التي توليه اياها "المجتمعات" أو "الشعوب" اللبنانية قيادة لبنان نحو برّ الأمان في هذه المرحلة الصعبة من تاريخه. اما الطريقة الثانية لحسم الموضوع الرئاسي فتكون باقدام احدى المرجعيتين المشار اليهما اعلاه بالاتفاق مع الجهات والفاعليات السياسية اللبنانية أو غالبيتها من مسيحية واسلامية على احداث تغيير في الرئاسة الاولى وعلى الشخص الذي يملك المؤهلات لانجاز هذا التغيير في موقع هذه الرئاسة. والحاصل حتى الآن، استناداً الى المتابعة الدقيقة للاوضاع اللبنانية يشير الى ان ضرورة التغيير صارت اقتناعاً راسخاً عند المرجعيتين أي عند البطريركية المارونية و"التيار الوطني الحر". لكن الاتفاق على من يتولى انجاز التغيير في موقع الرئاسة في قصر بعبدا لا يزال غائباً. فالعماد ميشال عون لا يزال متمسكاً بموقفه المصر على ابقاء لحود في الرئاسة حتى نهاية ولايته "الممددة" اذا لم يحظ بتأييد الغالبية السياسية والنيابية في لبنان بغية الوصول اليها. وهو قد يبقى كذلك الا اذا حصلت تطورات عدة داخلية وخارجية تقنعه بـ"نظرية" هذا الموقف او اذا بادرت البطريركية المارونية الى تكوين موقف نهائي من الاستحقاق الرئاسي او بالأحرى الى الجهر بموقف كهذا قد يكون عندها منذ مدة ، منطلقة في ذلك من قرار يعتبر ان ما يهمها هو مصلحة لبنان ومسيحييه بصرف النظر عن ما يمكن ان تتعرض له من انتقادات او سلبيات سواء من عون او من غيره.

موقف بكركي هذا المتكوّن منذ مدة او الذي قد يتكون في وقت قريب ما هي عناصره؟

المعلومات المتوافرة عند اكثر من جهة ديبلوماسية عربية واجنبية عاملة في لبنان وعند أكثر من جهة سياسية تشير في ما يتعلق بموقف البطريرك صفير في الاستحقاق الرئاسي الى امرين. الأول، هو الخوف أو بالأحرى القلق من موقف زعيم "التيار الوطني الحر" ومن طريقة تصرّفه في حال قررت بكركي مجاراة الغالبية النيابية والتيارات السياسية التي تمثلها في سعيها الى اقناع الرئيس اميل لحود بالتخلي عن السلطة أو الى دفعه الى ذلك. وايضاً في حال التفاهم معها على البديل منه الذي يمثل المسيحيين فعلاً والذي يرتاح اليه المسلمون ويستطيع تبعاً لذلك ان يكون رئيساً لكل لبنان. والخوف المذكور او القلق في محله لأن الغالبية المشار اليها ليست مع حلول عون في قصر بعبدا مكان لحود. وهو في محلّه ايضاً لأن عون قد يتخذ مواقف ويلجأ الى اجراءات تقسم المسيحيين واللبنانيين وربما تتسبب بخضة للاستقرار الهشّ الذي تاق اللبنانيون اليه. أما الأمر الثاني فهو توظيف الغالبية النيابية والسياسية المكونة من "تيار المستقبل" و"اللقاء الوطني الديموقراطي" والفاعليات المسيحية "المتحدرة" من "قرنة شهوان" والمتعاونة معهما (او حتى من دون هذه الفاعليات) دخول بكركي عملية التغيير الرئاسي لايصال شخصية مارونية منها الى قصر بعبدا الأمر الذي قد يعتبره المسيحيون اصراراً على تهميش دورهم وعلى ايصال رئيس لا يتمتع بشعبية فعلية عند المسيحيين الأمر الذي يجعله رهين ارادة من اوصله الى بعبدا. وهنا يجب عدم استبعاد تفاهم هؤلاء مع الكتلة النيابية الشيعية الكبيرة الممثلة لـ"حزب الله" و"حركة أمل". اذذاك فان الخيار عند الجميع قد يكون ايصال احدى الشخصيات المارونية "الحليفة" لسوريا وخصوصاً التي انقلبت على الاخيرة بعد خروجها من لبنان. لكن انقلابها قد لا يكون مقنعاً لكثيرين لاسباب عدة لا داعي الى الخوض فيها. علماً ان المعلومات المتوافرة عن هذا الأمر تشير الى ان الغالبية النيابية المؤلفة من "التيار" و"اللقاء" ابلغت الى من يلزم انها لن تقدم على ايصال رئيس الى بعبدا بالمواصفات المذكورة أي رئيس هو كالخاتم في اصبعها او رئيس بينه وبين سوريا الكثير. مع الاشارة هنا الى ان البطريرك صفير وغيره لا يريدون رئيساً معادياً لسوريا. لكنهم يعتقدن ان "ترئيس" "سوري" على لبنان، مع الاعتذار لهذا الكلام وهو ليس لنا في أي حال، لم يعد أمراً ممكناً ولا مقبولاً من كل اللبنانيين.

هل يتجاوز سيد بكركي الخوفين أو القلقين المفصلين أعلاه فيعطي الضوء الأخضر لبدء عملية التغيير الرئاسي؟

لا أحد يملك جواباً جازماً عن ذلك. علماً انه واستناداً الى معلومات الجهات الديبلوماسية العربية والاجنبية والجهات السياسية المذكورة اعلاه صار اقرب الى التغيير مما كان كان عليه في الماضي القريب رغم البيان الأخير الذي أصدره الاساقفة والمطارنة الموارنة في اجتماعهم الشهري. ذلك انه بدأ يخشى اعتياد اللبنانيين والعالم غياب رئيس الدولة "المسيحي الماروني" عن أي نشاط رسمي فعلي وتالياً على غياب دور مسيحي بارز وفاعل أو على الأقل مهم في لبنان. الا ان السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بموعد التغيير. لكن لا أحد عنده جواب عن ذلك رغم ان بعض المعنيين يعتقدون ان مطلع السنة المقبلة لا بد ان يشهد رئيساً جديداً للبنان وان بعد مخاض عسير وصعب ورغم ان بعضهم الآخر لا يبدو مقتنعاً بذلك على الأقل حتى الآن.

مصادر
النهار (لبنان)