ترسل انقرة اشارات متزايدة على تحوّلات في سياستها المعتمدة تجاه كل من الوضع الكردي في شمال العراق والنظام في سوريا. ورغم تقليص صلاحيات العسكر وتدخلهم في الشأن السياسي، فإن مؤشرات المواقف الجديدة كانت تصدر اولا عن قادة عسكريين ومن ثم يؤكدها او يستكملها مسؤولون سياسيون.

وشكلت الزيارة <<الرسمية>> التي قام بها مؤخراً رئيس اقليم كردستان العراقي مسعود البارزاني الى واشنطن واستقباله من جانب الرئيس جورج بوش بالذات الذي خاطبه بصفته <<رئيساً>>، مناسبة لاثارة نقاش تركي داخلي، واطلاق موجة من المواقف اللافتة المعبّرة عن مقاربة جديدة لانقرة للوضع الكردي في شمال العراق.
كان مجرد اسم البارزاني، يثير حساسيات لدى الرأي العام التركي، اذ كان الاكثر تطرفاً بشأن مستقبل مدينة كركوك والاكثر تحدياً لتركيا عشية واثناء العدوان الاميركي على العراق. وحاولت حكومة العدالة والتنمية لاحقاً استدراك خروجها من المعادلة العراقية، بموافقة البرلمان على إرسال قوات تركية في خريف 2003 الى العراق، من دون ان تجد هذه الخطوة طريقها للتنفيذ.

واستمرت تركيا <<تتفرج>> على المتغيرات العراقية الكبيرة، عاجزة عن التأثير الفعلي الى ان وجدت نفسها امام عراق جديد، ببنية فيدرالية، حيث للاكراد كيانهم الخاص بهم الاقرب الى الاستقلال منه الى الفيدرالية، وحيث الرئيس العراقي جلال طالباني، كردي، و<<الرئيس>> الآخر لاقليم كردستان، مسعود البارزاني، كردي ايضا. وكلاهما له شرعيته المنبثقة من انتخابات معترف بها دولياً.
حاولت تركيا تجاهل الواقع العراقي الجديد مطولا. لكن <<حادثة>> استقبال بوش لبارزاني <<الرئيس>>، اظهرت وجود سياسة تركية جديدة تجاه شمال العراق وانطلاقا ربما من معادلات جديدة.

رئيس اركان الجيش التركي الجنرال حلمي اوزكوك تحدث قبل ايام عن هذه السياسة الجديدة بقوله <<إن الولايات المتحدة التقت بجيري آدامز، زعيم الجيش الجمهوري الايرلندي، والذي تعتبره بريطانيا انفصاليا. ونحن، في تركيا، شعرنا بعدم الارتياح من لقاء بوش بارزاني. لكن، هناك شيء: بارزاني كان زعيم عشيرة، وهكذا كنا ننظر إليه. لكن الوضع تغيّر ويجب ان نقبل هذا التغيّر. كذلك كنا ننظر الى طالباني. أما الان فهو رئيس جمهورية العراق، غداً، قد يريد زيارة تركيا بصفته رئيسا للعراق. فماذا سنفعل عندها؟. إذا كنا نعترف بالعراق فيجب ان نتصرف وفقا للظروف المتغيرة>>.
يلتقي عبد الله غول، وزير الخارجية، مع ما ذهب إليه اوزكوك. فللمرة الاولى يذكر غول او اي مسؤول تركي اسم بارزاني مسبوقا بكلمة <<السيد>>، لكنه يضفي تعليلا للمقاربة التركية الجديدة وهو ان بوش نصح بارزاني بضرورة التعاون المشترك مع تركيا، الدولة الديموقراطية الوحيدة الجارة للعراق، والتصدي لحزب العمال الكردستاني المتواجد في شمال العراق. كذلك يرى غول ان الاكراد وعدوا بوش بالحفاظ على وحدة العراق وفقا لبنيته الفيدرالية.

يرى سامي كوهين، في صحيفة <<ميللييت>>، إن عدم قبول تركيا بالبناء الجديد في العراق، وعدم اعترافها بالسلطة المحلية في شماله، لن يغيّر من الوضع شيئا. فالعداوة والتوتر مع <<جار>> مباشر لن يفيد احداً. لذا ينصح كوهين انقرة باتخاذ مواقف واقعية والدخول في تعاون مشترك مع الزعامة الكردية في شمال العراق.
لكن رأي بولنت اجاويد، رئيس الوزراء السابق، مغاير لتوجهات انقرة الجديدة. ويقول ان الوضع في الشمال يتجه، بعد استقبال بوش ل<<الرئيس>> بارزاني، نحو الاستقلال الكامل للدولة الكردية. وإلا ما معنى هذا الاستقبال الرئاسي؟ ويتهم اجاويد حكومة اردوغان بأنها لم تدرك تماما او انها لا تريد ان تدرك معنى الاستقبال الرئاسي لبارزاني.

وينقل فكرت بيلا، المعلّق في صحيفة <<ميللييت>>، عن اوساط حكومية قولها ان انقرة ترى في تقوية وضع طالباني وبارزاني في العراق، ضمانة لوحدته وللمعركة ضد حزب العمال الكردستاني. اي ان مسألة الانتهاء من وضع حزب العمال قد تكون على يد بارزاني نفسه الذي اطلق تصريحا ضمنيا في هذا الاتجاه.
في موازاة التقارب التركي مع اكراد العراق، المتقاطع مع تقارب اكبر مع الولايات المتحدة واسرائيل، برز كذلك موقف لرئيس الاركان التركي من نظام الحكم في سوريا، يتقاطع بدوره بنسبة او باخرى، مع وقوف حزب العدالة والتنمية على مسافة، في الاسابيع الاخيرة، من نظام الرئيس بشار الأسد.

يقول اوزكوك ان تركيا تفضل ان يكون في جوارها انظمة ديموقراطية. ويقول: <<سوريا جارتنا. كانت تدعم في الماضي الارهاب ضد تركيا. هذا لا ينسى، بعد ذلك تعاونت معنا. لكن لسوريا مشكلات مع دول اخرى، وبقدر ما يكون في جوار تركيا أنظمة ديموقراطية بمقدار ما تشعر تركيا نفسها بالأمان. لان الانظمة التوتاليتارية تقول اليوم شيئا وغداً تقول شيئاً آخر>>.

مصادر
السفير (لبنان)