في الشارع السوري، اليوم، مرارة وشعور بالمهانة والظلم ومحاباة الوجوه: لماذا بلادنا وحدها مستهدفة بالهراوة الغليطة، فيما اسرائيل ترتع في الدلال، وتُغفر لها جميع ذنوبها؟ لماذا اجتمع العالم علينا، عربه كما عجمه، حتى لم نجد سوى ايران نصيراً؟

المرارة مشروعة حكماً، ولا من ينكر احقيتها. والاحساس بتجبّر سادة العالم وتحيزهم، وهم القابضون على مجلس الامن، له من الأسانيد، قديماً وحديثاً، ما يملأ مجلدات. لكن ثمة امرين لا تستقيم الرؤية من دون ابصارهما:

- مسؤولية النظام الحاكم باستبداديته وفساد قراءته السياسية، عن الحال التي آلت اليها سوريا، تبديداً للاصدقاء وتكثيراً من الاعداء. يكفي ان نستذكر سلوك القيادة الحاكمة حيال الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان عرّاب الرئيس السوري، حيال أوروبا، عندما استقبله، مثنى وثلاث، قبل تنصيبه وبعده، معلّقاً عليه كبير الآمال، حاسباً انه سيختط نهجاً جديداً في الاداء السياسي، حتى جاءته الفواجع، متلاحقة.

- استمرار وجود فرصة، ولو ضئيلة، ولو مكلفة، ولو متناقصة، لتحرير العنق من الخناق الذي لا بد سيشتد، شرط نشوء وعي جدّي، قاطع، بان زمن الانظمة ذات الاذرع الخارجية ، وأحصنة النفوذ خارج الحدود، قد ولّى بعد 11 ايلول، وان الحكمة تقتضي التخفف من هذه الاثقال، في اتجاه اعادة تحصين الداخل على قاعدة تكوين سلطة ديموقراطية، حرة، تتسع لجميع الاطياف السياسية.

لا سبيل، بعد، للجمع بين النفوذ الاقليمي والاستقرار في الداخل، فإما هذا وإما ذاك. إما "الاوراق" وإما استقرار سوريا. إما القبول بدولة متوسطة الحجم، بلا نفوذ خارج الحدود، غير منتفخة في اوهامها وادعاءاتها، وإما المجازفة بالطرد من النادي الدولي.

إن "التعاون" مع المجتمع الدولي ذو عنوان واحد اليوم: قبول الخروج من سبارطة تفكيكاً للقلعة (التي ما عادت قلعة) ودكاً للأسوار التي ما عادت تسوّر احداً. واذا كان للقبول مخاطر على النظام، فإن للرفض مخاطر على الدولة نفسها، وعلى المجتمع في عيشه وسلامته. وهي ادهى واكثر استدعاءً للقلق.

صحيح ان الغرب فقد ثقته بالنظام كلاً، لكن ضبابية البدائل، وتخوّف الجوار العربي من اخطارها، تغريه ربما بعدم الاندفاع في اسقاطه، شرط ان يبدّل النظام نفسه بعملية جراحية فعلية، لا مدخل اليها سوى بمراجعة مجمل سياساته، وانتهاج استراتيجية جديدة بالكلية.

والامر، من قبل ومن بعد، مرهون بقرار شخصي، تاريخي، ضميري، من الرئيس بشار الاسد نفسه. ففي يده ان ينقذ سوريا، وينقذنا، او يطرح البلدين في المهالك، طالما ان ما يصيب سوريا سيرتدّ تداعيات هائلة علينا.

في يده هو ان يضحي ببعض الرؤوس من اجل ان ينقذ البلاد (ونظامه)، وفي يده ان يضع رؤوس السوريين جميعاً تحت مقصلة العقوبات، وهي معبر اول نحو التدخل العسكري.

دافعنا الى هذا الكلام اننا نحب سوريا، ونريد لها نظاماً ديموقراطياً، حراً، يكون سياجها الوحيد. ونحن قلقون عليها، ولا نسرّّ لو مسّها ضرار، او أنشب فيها الوحش اظافره.

نحب سوريا، تراثاً وارضا وشعباً. نحبها بأهلها البسطاء، الفقراء الودعاء. نحبها بانبساط سهولها وامداءها.

في سوريا، تراثنا العربي والاسلامي. في سوريا، قديسونا واحبارنا وكنائسنا وبيعنا، واضرحة نساكنا ومرنميننا، ورافعي الابتهالات في ابهى شعر.

في سوريا، اخوة لنا في الايمان واخوة في الانتماء الى الجسد العربي.

في سوريا، رفاق واصدقاء وحلفاء احرار، من كتاب ومثقفين وشعراء ومدافعين عن كرامة الانسان.

وفي سوريا، آباء وامهات واطفال سنصلب معهم لو صلبوا، او جاعوا او تشردوا او نزلت بهم النوازل.

من اجل سوريا الاغلى من جميع حكامها،

من اجل سوريا الباقية ارضاً حبيبة، وشعباً توأماً، وجاراً ابدياً، نكتب ونجهر بالصوت ونقاتل، ولا نرتدع.

... حتى لا نحزن كثيراً على عروستنا، دمشق.

مصادر
النهار (لبنان)