لا احد ينكر او يستطيع ان ينكر ان الدكتور سمير جعجع قائد "القوات اللبنانية" لم يكن في السنوات الخمس او الست الاخيرة من ممارسته السياسة وتعاطي الشأن العام (1989–1994) في اوج قوته الشعبية التي طغت قبل ذلك على كل تمثيل سياسي وشعبي مسيحي آخر. ففي عام 1989 استولى، اذا جاز استعمال هذا التعبير، العماد ميشال عون وبعد انتقاله من قيادة الجيش اللبناني الى رئاسة الحكومة العسكرية الانتقالية او النصف حكومة على الشعارات الجاذبة للمسيحيين من داخلية واقليمية والتي كانت في السابق شعارات كتائب المؤسس بيار الجميل ونجله بشير ووظفها لتحقيق هدف من اثنين او الإثنين معا. الاول، تحرير البلاد من "الاحتلال السوري". والاخر، الدخول الى رئاسة الدولة. ونجح في هذا التوظيف شخصيا وخصوصا بعدما استغل بحذاقة سياسية المزاج الشعبي المسيحي السلبي حيال اتفاق الطائف الذي كرس دور سوريا في لبنان وعدل في توازنات الداخل الطائفية والمذهبية. وصارت "القوات" نتيجة لذلك كله "جيشا" او ميليشيا ولكن بلا قاعدة شعبية كبيرة. ثم جاءت هزيمته العسكرية في خريف عام 1990 على يد الجيش السوري والجيش اللبناني بضوء اخضر دولي وعربي وبموافقة عدد مهم من "شعوب" لبنان لتضاعف من شعبيته المسيحية وخصوصا بعدما فشل مؤيدو الطائف في الداخل على كثرتهم في اقناع الناس به بسبب عدم تطبيقه واستغلاله لاقامة واقع غير لبناني في لبنان وبعدما استقال المجتمعان العربي والدولي من مسؤوليتهما حيال لبنان وشعوبه.

لكن لا احد ينكر او يستطيع ان ينكر ان النواة السياسية والعسكرية (الميليشيوية) التابعة للدكتور جعجع استمرت على ايمانها به وبسياسته خلال الفترة المذكورة اعلاه رغم كل الضغوط من جهة والمغريات من جهة اخرى. وانها عادت الى التوسع بعد اعتقاله عام 1994 بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل بفعل عاملين مهمين. الاول، تكوّن شعور عند اللبنانيين والمسيحيين منهم خصوصا بوجود "فبركة" ما للاتهام الموجه ضده وباستغلال ذلك لفتح ملفات اخرى يمكن ان تبعده عن الساحة بل الحياة السياسية الى "الابد" وفي الوقت نفسه لحرمان القاعدة المسيحية قائدين هو وعون (بوجوده في المنفى الفرنسي) ولجعلها اكثر طواعية واقل قدرة على تقبل ما تخططه سوريا للبنان كما على الوصول الى القاعدة الاسلامية المتنوعة وعلى التواصل معها، وهذا التوسع لمسه المتابعون الكثيرون لاوضاع لبنان سواء من داخل او من خارج بعد "الاضطهاد" الذي مارسته السلطة اللبنانية وذراعها الامنية والعسكرية السورية في لبنان على "شباب القوات" اثناء فترة اعتقال جعجع وخصوصا في الجامعات والمدارس وعدد من المناطق. وهم يلمسونه اليوم بعد الافراج عنه ثم بعد عودته من الخارج حيث ذهب للراحة او للاستشفاء او للسببين معا من خلال الوفود الشعبية الشابة والاكبر عمرا التي تتقاطر الى دارته في منطقة الارز والتي يستطيع ان يقول فيها اخصامه الكثير الا انها مبرمجة وغير عفوية. علما ان توسع شعبية جعجع هذه لا يعني حتى الان انها صارت من حيث الحجم باهمية شعبية "الجنرال" عون و"تياره الوطني الحر".

ولا احد ينكر او يستطيع ان ينكر ان قلوب المسلمين في لبنان او بالاحرى معظمهم لم تكن مع الدكتور سمير جعجع سواء اثناء الحروب التي عصفت بالبلاد وكان هو احد ابرز رموزها وكذلك عقولهم. مثلما لم تكن هذه القلوب والعقول مع العماد ميشال عون سواء يوم كان جزءا من السلطة (ضابطا فقائدا للجيش) والوضع المسيحي المقاتل او يوم اصبح رئيسا لحكومة انتقالية شهد المسيحيون اشرس المعارك في ظلها وشهد اللبنانيون في ظلها ايضا استباحة غير اللبنانيين للمعاقل التي كانت عصية عليهم وفي مقدمها وزارة الدفاع. لكن احدا لا ينكر في الوقت نفسه او لا يستطيع ان ينكر ان عقول اللبنانيين وخصوصا المسيحيين بدأت تستمع بل تصغي الى جعجع الخارج من السجن والذي يبدو مختلفا وان على نحو غير محدد حتى الآن عن جعجع الذي كان داخل السجن وجعجع "القائد" السياسي – الميليشياوي قبل دخوله اليه. ففي كلامه ومواقفه الحالية بوادر اختمار يرحب بها الناس. لكنهم سينتظرون بل سيتريثون وربما طويلا قبل الحكم عليه ولكن من دون قطع الطريق على تحوله وخصوصا اذا كان ايجابيا. والامر نفسه فعله هؤلاء مع العماد ميشال عون وخصوصا بعد عودته من منفاه الفرنسي في ايار الماضي اذ خرجوا بنتيجة حتى الآن على الاقل باعتبار ان التطورات المهمة التي تشهدها البلاد بمواقفه منها هي التي تقرر موقفهم النهائي منه، تفيد انه اختمر في نواح عدة وانه لا يزال على حاله في نواح عدة.

لماذا الحديث الآن وعلى النحو الظاهر اعلاه عن الدكتور جعجع و"قواته" الجديدة وعن العماد ميشال عون و"تياره الوطني" وحزبه الجديد؟

لان عودة عون من المنفى في ايار الماضي ثم عودة جعجع الى الحياة السياسية من شأنهما ازالة عقدة النقص في التمثيل التي عاناها المسيحيون اللبنانيون منذ انتهاء الحروب في بلادهم قبل نيف و15 سنة، ولان هذه الازالة يمكن ان تحقق شيئا من التوازن مع المسلمين اللبنانيين الذين لم يعانوا عقدة كهذه وان عانوا عقدة فقدانهم حرية الحركة والقرار السياسيين لاسباب معروفة. وطبيعي ان يكون ذلك عاملا مساعدا في اعادة بناء لبنان التي تعطلت خلال الـ15 سنة الماضية على اسس من الديموقراطية والعدالة والتوازن والحرية والاستقلال والسيادة.

الا ان ذلك كله لا يكفي، فلاكتمال التوازن مع الآخرين في التمثيل وفي مجالات اخرى لا بد من ان يكون القائدان العائدان عون وجعجع قد اتعظا من تجارب الماضي وقد قوما دورهما فيها، وقرأا المستقبل اللبناني والاقليمي في ضوء التحولات والتغييرات الهائلة الجارية في المنطقة والعالم. ذلك ان اي ممارسة للسياسة او اي تعاط للشأن العام بعقلية الماضي او بمقاييسه او بطموحاته الخاصة والعامة سيوقعان في التهلكة ليس صاحبهما فحسب بل "المجتمع" الذي يمثله او يقول انه يمثله. ويعني ذلك في اختصار امورا عدة. اولها، تخلي عون وجعجع عن عقلية الاحادية في الزعامة المسيحية على الاقل. وكلاهما اعلن ذلك. لكن العبرة تبقى في التطبيق. وثانيها، قبول الآخر والتنافس الحضاري والسياسي معه في الشارع وفي كل الاوساط وعدم تحويل هذا التعاطي اشتباكات فحروب تقضي على الاستقرار الذي ينشده اللبنانيون. وثالثها، عدم اتفاق الفريقين على الغاء القيادات والاحزاب المسيحية الاخرى وان كانت اقل تمثيلا من الناحية الشعبية لان التنوع المسيحي ثم الوطني هو الضمان الوحيد للبنان. ورابعها، اعتبار عون وجعجع ان الانتخابات الحرة النيابية او النقابية او اي انتخابات اخرى هي مقياس الشعبية وليس اي امر آخر وان الشعبية يمكن ان تتطور ارتفاعا او هبوطا. وخامسها، التخلي عن اوهام الصفقات الثنائية الداخلية لانها تؤذي الوطن وتقضي على الدور المسيحي في البلاد.

هل يعرف الزعيمان المسيحيان العائدان الى الحياة السياسية وان بفارق اشهر اي عون وجعجع كل ذلك؟

اقوالهما تشير الى معرفة كهذه. لكن الاقوال لا تكفي وحدها. وحدها ترجمتها والثبات عليها يؤكدان ان شيئا ما تغير وان التغيير الحاصل حقيقي وعميق.

مصادر
النهار (لبنان)