تميزت سياسة سورية الخارجية تجاه بيئتها الإقليمية والدولية، بكونها نتاج عوامل موضوعية تكمن في اوضاعها التاريخية والجـــغرافية والثقافية، من دون ان يعـــني ذلك استبعاد الطابع والتأثير الشخــصي لقادتها في صوغ سياستها الخارجية في شــكل خاص خلال تاريخها المعاصر.

وشكلت السياسة الخارجية السورية، على مدار عقود، احد اهم مصادر الشرعية للنظام السياسي الذي ارتكز، في هذا المجال، إلى ما يسمى «الشرعية الثورية»، نتيجة سيادة نمط الانقلابات العسكرية، والتي طالما اوصلت الى السلطة ضباط الجيش الذين افتقروا دائماً الى مصدر حقيقي للشرعية يؤهلهم لحكم البلاد.

وانطلاقاً من هذا الواقع وظفت السياسة الخارجية في سورية لتثبيت مواقع الانقلابيين في الحكم، من خلال صوغ انماط سياسية تميزت بمحاكاتها للمزاج الشعبي، خصوصاً لجهة معاداة الغرب والتشدد اللفظي تجاه اسرائيل. غير ان ذلك لم يمنع ايضاً من توظيف هذه السياسة لخدمة هدف تقوية النظام في بيئة الإقليمية والدولية، عبر مسايرة الموقف الدولي في لحظة اقليمية معينة، وهو ما اسبغ على السياسة الخارجية السورية صفة «البراغماتية».

من جهة اخرى، شكلت الخصائص الجيوسياسية لسورية، لجهة موقعها، ومركزيتها في الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصاً بعد خروج مصر من معادلة الصراع، فضلاً عن محاذاتها لتركيا «القاعدة الأميركية المهمة»، مؤثراً في توجهات السياسة الخارجية السورية، لجهة بناء تحالفات سياسية معينة. وترافق ذلك مع تميز صــــانع السياسة الخارجية حافظ الأسد بحــــس استراتيجي عال، طالما تـــطابقت تصـــوراته لمركز سورية، مع توقعاته لحـــجم التغيير الدولي المحتمل في النسق الدولي، وذلـــك في اطار حسابات شاملة للعلاقة بين الأهداف والوسائل (الاستراتيجيات المتبعة).

وأتاحت مجموعة الظروف، هذه، لسورية ان تلعب ادواراً مهمة في منطقتها، نُظر إليها على انها اكبر من حجمها وقدراتها الحقيقية، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، غير انه كان لذلك ايضاً أثر سلبي، على اعتبار ان الدور السوري لم يبن على مقومات حقيقية، بقدر ما بني وتأسس على وقائع ظرفية، وظروف دولية عابرة.

عقبات أمام الدور الاقليمي

وبالفعل، واجهت سورية إثر تسارع المتغيرات الدولية، عقبات كبيرة في وجه دورها الإقليمي، وتوجهاتها وسياستها الخارجية عموماً. وكان ذلك نتيجة متغيرات مهمة في بنيان النسق الدولي، وتوجهات السياسة الدولية، في عصر هيمنة القطبية الوحيدة، وتراجع دور الأنساق والنظم الفرعية، كالنظام الإقليمي العربي، وتراجع دور المنظمات والمؤسسات الدولية، التي طالما استندت عليها دول العالم الثالث في تدعيم مراكزها، كمنظمة عدم الانحياز والأمم المتحدة واليونسكو والأنكتاد، وسواها لمصلحة هيمنة المنظومة الاستراتيجية الموازية والداعمة لنهج وسياسات القوى العظمى الوحيدة في العالم، كصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

وثمة من يرى حدوث متغير مهم، كان له اثر كبير في صنع السياسة الخارجية، وتحقيق نجاحات مهمة على صعيدها، وهو غياب الرئيس حافظ الأسد الذي طالما تميز بخصائص وقدرات قيادية، بخاصة لجهة قدرته على حسن التصرف مع مقتضيات الظرف الدولي، وفهمه لحقيقة متطلباته وطبيعة توجهاته ما اتاح لسورية تحقيق مكاسب مهمة على صعيد سياستها الخارجية وتعزيز مواقعها الإقليمية والدولية. غير ان القضية تخرج عن اطار مسألة تطابق البيئة النفسية لصانع السياسة الخارجية، مع متغيرات البيئة الموضوعية، وتدخل في اطار المتغيرات البنيوية في النسق الدولي، وواقع توجهاته، والذي قلل من فرص القوى الإقليمية في لعب ادوار مؤثرة، وسيسعى الى تحويلها الى مجرد لاعبين هامشيين، وإن سمح بأدوار معينة، فلن يتعدى الأمر القيام بمهمات خدمية في اطار مصالح القوى العظمى، وبتحديد ادق في الإطار الاقتصادي (ترانزيت، تسويق، ترويج، سياحة).

فرص ضئيلة

بالطبع يدرك صنّاع السياسة الخارجية في سورية، ان الفرص ضئيلة جداً في هذا المجال، اما لتخلف الهيكلية الاقتصادية لبلادهم، او لوجود منافسين اقليميين يمتلكون الخبرة والسند الدولي، الأمر الذي يحدد هامش الخيارات السورية ويجعلها محصورة في اطار الأدوات التقليدية التي اعتمدتها دمشق على مدار عقود مضت، كدعم حركات التحرر، وبناء شبكات من التحالف مع قوى وتنظيمات سياسية معينة. غير ان الإشكالية التي باتت تواجه سورية في هذا الإطار هو ان اميركا عملت على محاصرتها بعدة قانونية شملت حزمة من القرارات الدولية (1559 – 1595 – 1614).

لا شك في ان معطيات السياسة الدولية وتحولاتها، في ظل سياسة العزل التي تحاول اميركا فرضها على سورية، باتت تفرض قيوداً متعددة على سياستها الخارجية، لدرجة لم يبق امامها سوى العمل في اطار رهانات سياسية معينة، كالرهان على فشل المشروع الأميركي في العراق. غير ان ذلك يحمل في طياته شبهة عدم «رشادة» السياسة الخارجية باعتبار ان هذه السياسات للدول تبنى على اساس معطيات ومؤشرات منطقية، وحسابات استراتيجية معقدة، أي انها عملية عقلانية في الدرجة الأولى.

والحال، فإنه عندما كانت السياسة الخارجية لدولة ما، تصاغ في سياق قضايا معينة، وتنفذ من خلال مجموعة من الأدوات (الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية) «فإن واقع الظروف «القومية» السورية، وطبيعة متغيرات النسق الدولي وتوجهاته، باتت تتطلب من صانع السياسة الخارجية السورية التكيف مع المتغيرات التي تؤثر في دولته، ومحاولة التأثير في تلك المتغيرات في شكل يتفق ورؤيته لما يجب ان يكون عليه موقع دولته في النسق الدولي، وذلك من دون شك يتطلب صوغ انماط جديدة في التعامل، تأخذ في الاعتبار مصالح سورية الحقيقية، وكذلك قدراتها وإمكاناتها، مع المحافظة على دورها المميز في بيئتها الإقليمية والعربية، وذلك يتطلب من القيادة السورية صوغ معادلة استراتيجية مختلفة في مبناها ومعناها عن الممارسات المرتبكة في السياسة الخارجية الحالية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)