ليس اللبنانيون وحدهم الذين عاشوا حالاً من الطوارئ أثناء مداولات مجلس الأمن التي سبقت صدور القرار 1636 الذي يطالب سورية بالتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية بقيادة الألماني ديتليف ميليس، «كولومبو سورية ولبنان، بحسب تشبيه الصحف الألمانية. فالسوريون عموما، نخباً سياسية وفكرية وشعباً بكل فئاته وطبقاته، عاشوا حالاً من الطوارئ وهم يتابعون على أعصابهم نتائج التصويت على القرار الجديد، الذي حظي بالإجماع المطلق. وقد أقض مضجعهم هذا الإجماع الذي من شانه أن يدفع بسورية والسوريين جميعا الى نفق الحصار والعقوبات. فالسوريون عموما يجدون أنفسهم بعد صدور القرار المذكور أمام تاريخ يعيد نفسه، أو بصورة أدق، أمام تاريخ عراقي قد يجد تطبيقه على الحال السورية في القريب العاجل. ومع غياب أي آلية يثبط بها مجلس الأمن لجنة التحقيق، يصبح الباب مشرعا أمام الاحتمالات كافة. فثمة قناعة لدى غالبية السوريين أن المماطلة والابتزاز هما القاعدة في لجان التحقيق الدولية، وأن الإدارة الأميركية لغاية في نفس يعقوب لن ترضى عن دمشق حتى ولو اتبعت ملتها.

تشريع باب العقوبات

اضف الى ذلك قناعة الجميع إن باب العقوبات على سورية بات مشرعا، وان هذه العقوبات ستمر من الخرم الواسع لأصحاب النيات الحسنة الذين لا يريدون للعقوبات أن تطال الشعب السوري، فالعقوبات ستطال هذا الشعب الذي يجد نفسه محشورا ومحصورا بين المطرقة الأميركية التي تتاجر بدم الشهيد رفيق الحريري، وبين سندان السلطة السورية المشلولة الحركة والتي تجد نفسها في حال حصار لا سابق لها.

لم يهن على الشعب السوري اغتيال الرئيس الحريري، ومن عاش في سورية أيام الحدث الأليم يدرك ذلك. فقد كان الحريري بالنسبة الى هذا الشعب مثالا يحتذى للرجل الناجح الذي استطاع بحنكته وعلاقاته المميزة أن يقود بلده من أوار الحرب الأهلية الى المستقبل، وان يعيد بيروت الى سابق وهجها ودورها، لا بل أن السوريين كانوا يتمنون دوما أن يكون لديهم رئيس مجلس وزراء بحجم الرئيس الشهيد ليكون رافعة لتقدم سورية الذي ما زال متعثرا. من هنا مطالبتهم بالكشف عن الجريمة التي أنزلها الرئيس السوري الى مستوى «الخيانة « ومحاسبة المسؤولين عنها مهما كانت رتبهم وسوياتهم في حال ضلوعهم فيها.

لكن القرار 1636 يهدد بجعل الشعب السوري رهينة في يد القرارات الدولية التي تستند الى البند السابع من ميثاق مجلس الامن الذي يبيح استعمال القوة ضد سورية في حال عجزها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه لجنة التحقيق الدولية، وهي سابقة لم تطبق إلا على العرب مع استثناء كلي لإسرائيل عن ذلك. فالسلطة السورية تجد نفسها مدفوعة الى معادلات مستحيلة الحل، والولايات المتحدة ومن ورائها فرنسا محــكومة بأهـــداف أبعد من اغتـــيال الرئيس الحريري.

المطرقة والسندان

هكذا يجد الشعب السوري نفسه بين المطرقة والسندان، مدفوعا الى ما سمّاها ادوارد سعيد «الخيارات البائسة»: إما الوقوف الى جانب الامبريالية في «خطة هجومها «ضد سورية، وهذه حال مرفوضة من قبل السوريين جميعا باستثناءات نادرة، أو الى جانب نظامهم الحاكم الذي يتحفظون عنه ويضعون حول سلوكه السياسي على مدى عقود ألف إشارة استفهام.

يمكن القول بدقة إن الشعب السوري الذي حرمه القرار المذكور من بهجة العيد، وعلى رغم كل سنوات الاضطهاد السياسي التي عاشها، يظل شعبا وطنيا وسياسيا، يرث بامتياز ميراثاً من الوطنية نجح دائما في التغلب على ميراث الكراهية الذي يراهن عليه بعضهم. أضف الى ذلك أن وعيه الوطني والسياسي يجعله يرقب باستمرار العالم ومحيطه الإقليمي خصوصاً ما جرى ويجري على الساحة العراقية التي تحولت الى ضارة نافعة، اذ يعتقد كثيرون من السوريين أنهم يعاقبون من أجل الموقف من العراق. ومن هنا يمكن القول إنه في حال وجد هذا الشعب نفسه مدفوعا الى الخيار بين الضغوط الدولية التي تمارسها الولايات المتحدة وبين النظام السوري، سيختار عن طواعية الوقوف الى جانب النظام، معتبرا كل وقوف الى جانب الأميركيين ضرباً من الخيانة. صحيح أن السوريين يعيشون حالاً من الطوارئ والقلق، لكنهم يعيشون حالاً من الاستعداد للمقاومة في حال عجزت السلطة السورية عن الالتزام بوعودها للجنة التحقيق الدولية. فالسوريون عموما لا يريدون أن يمروا بالطور العراقي الذي انتهى بتدمير الدولة وكانت النتيجة غياب الامن وسيادة الفوضى والدمار والموت .

لا يحتاج السوريون الى كثير من الفطنة السياسية، ليميزوا الغث من السمين في خطاب الإدارة الأميركية عن الديمقراطية وعن الشرق الأوسط الجديد وعن نظرية الفوضى الخلاقة التي يروج لها. فالتجربة العراقية ماثلة الى العيان وهي لا تحتاج الى قراءات أخرى، ولذلك تراهم يجمعون على عدم تكرار التجربة والدفاع عن بلدهم مهما كان الثمن؟.

هذا القول من شانه أن يصدم الكثير ممن يراهنون في الخارج والداخل على ديمقراطية جوفاء يمكن استيرادها على وقع خطى المحتل الذي يريد أن يجعل من موت الشهيد الحريري قميص عثمان، ولذلك لم يعد السوريون، على عكس الكثير من النخب السياسية، مشدودين الى سحر القول في الديمقراطية الأميركية، فما يعنيهم في هذه المرحلة الحفاظ على بلدهم وعلى دولتهم. فعلى رغم إدراكهم، وعلى مدى تاريخ طويل، أن موتهم وذلهم كانا باسم الدفاع عن وطنهم، إلا أن النفق الذي يدفعهم إليه القرار 1636 لا يترك لهم الخيار إلا ان يكونوا موحدين.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)