لم يعد يستحق حتى أن يثير الأعصاب السماع عن مسؤولين عرب حرصوا على الاتصال لإبداء القلق إزاء ما يجري في فرنسا وللتعبير عن استعدادهم للمساعدة في تهدئة الخواطر إذا لزم، وكأن لديهم ما يساعدون به. يتحدثون وكأنهم يمونون على عصابات أحياء ومجموعات حارات من هؤلاء الفتية الذين هرب آباؤهم من دول هؤلاء المسؤولين، ويعيش أترابهم في أحزمة فقر مخيفة حول عواصمها أيضاً وفي ضواحيها. صحيح أن هؤلاء الشباب لا ينتمون لأضواء المدينة ولا لأحيائها الغنية، ولا لأحيائها التي كانت شعبية فأصبحت عنوانا لرواد المقاهي والجاليريات والتقليعات، ولا لأزقتها التي اصبحت محجاً للشباب من أبناء جيلهم من كافة أنحاء العالم، صحيح أنهم لا ينتمون لحياتها الثقافية، ولا لمناطقها السياحية، ولكنهم لا ينتمون أيضا إلى تلك البلاد التي هاجر منها آباؤهم الواقعة شمال الصحراء أو جنوبها، وهم بالتأكيد لا ينتمون لهؤلاء المسؤولين العرب الذين يشعرون بالحرج من هوية المشاغبين أمام باريس التي يحبون أن يقضوا فيها وقتا ممتعا.

نوعان من الشخصيات في العالم العربي تصر على مساعدة لم يطلبها أحد، وأكاد أجزم أنه لا توازيها شخصيات في دول المهاجرين الأخرى أفريقية كانت أو أوروبية شرقية. لا يوجد في أيامنا زعامات دول غير عربية تحمل طموحات كهذه مجبولة بعقد نقص كهذه، ورغبة كهذه في إثارة إعجاب شيراك في أيام ال”بونلوي” أو بوش في أيام لويزيانا. والجميع يدعو الى الهدوء. ونحن أيضا طبعا ندعو إلى الهدوء، ولم لا، ولكن بأية صفة؟ زعماء يريدون أن “يبيضوا وجوههم” حرفيا لتبدو واقعية وعقلانية وحريصة على الاستقرار في الدول الكبرى، وقيادات إسلامية تريد أن تتحول إلى عنوان للاعتدال في الغرب فتأخذ ما ليس لها، مصادرة هوية هؤلاء الشباب المركبة بل حتى المشوهة أحيانا لكي تفرض عليهم هوية إسلامية متجانسة من صنع خيالهم تتحول إلى رأس مال سياسي، وتحولها هي إلى ممثلة عالمية لهؤلاء الشباب. تطرح على “الغرب” أن يختار بين الحرق والتخريب وانزلاق الشباب إلى الجريمة أو الراديكالية الدينية السياسية وبين نوع من “الإسلام المعتدل”، كائن جديد يفرض عليهم كهوية، ولو تطلب ذلك أن تتنازل فرنسا مثلا عن تصورها للاندماج. فهي بذلك توفر على ذاتها وجع رأس إذ تحشر أبناء المهاجرين في “جيتوات”، ولكنها ستكون “جيتوات” منضبطة ذات هوية، ويكون للسلطات الفرنسية عنوان تتوجه إليه في الأزمات مشكل من ممثلي هذه الهوية.

هذه محاولة مفضوحة لفرض هويات، ولصنع هويات تخدم مصالح سياسية محددة. يساهم هذا النوع من التدخل الذي أوردنا عنه أمثلة قليلة فقط في تثبيت صورة الصراع كأنه صراع هويات وثقافات في ذهن الفرنسيين.

وعلى كل حال لم تقصِّر فرنسا الاندماجية ذاتها في صنع هويات للشباب، فهي أصرت في النظرية على الحرية والمساواة والإخاء وذلك بصيغة اندماجية تفرض الثقافة الفرنسية كثقافة متجانسة لا تعترف بالاختلاف، وتحول العلمانية ذاتها إلى دين. وقد شهدناها مؤخرا تفرض بحماسة علمانية حتى الحرية من الحجاب. وفرض الحرية ليس التناقض الوحيد الذي يتمخض في النهاية عن نتيجة مفادها أن ما فرض لم يكن حرية، وما نتج ليس مواطنة متجانسة. فخارج مسألة الحقوق المدنية، حيث يصح استخدام هذه التسمية، تتحول ’’الحرية’’ في المجتمع الاستهلاكي إلى عبودية لنمط حياة استهلاكية من نوع محدد جدا، ونمط الحياة هذا يتحول بدوره إلى هوية تدعي أنها كونية، ولكنها أكثر جزئية ومحلية مما يتصور المتباهون بها. والمساواة أمام القانون، وهي هامة بالذات لأنها شكلية، أفرزت تمييزا اجتماعيا وعنصريا مس حتى بالمساواة أمام القانون ذاته، خاصة في ممارسات أدوات تطبيق القانون من شرطة ومحاكم. أما الإخاء فلا يبدو وثيق الأواصر مزدهرا بين باريس وأخواتها في الضواحي.

ورغم شعارات المواطنة الاندماجية، ومفهوم الأمة القائم على المواطنة، فإن الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعنصرية رجال الشرطة وعنصرية المجتمع ضد من لا يبدو فرنسيا حددت الفرنسية في النهاية بأقل من المواطنة، محددة هوية ثقافية تقصي ملايين المواطنين. ولكن الإقصاء غير الرسمي طبعا أكثر تركيبا وتعقيدا، فهو لا يكتفي ولا يقبل أن يكون مجرد عملية نبذ، بل يجهز العدة الثقافية والاجتماعية لجعل من تم إقصاؤه يتباهى بانجازات، وبتسلق إلى القمة تسللا عبر سلالم الرياضة وال”ستاند اب كوميدي”، وفرق الغناء وببعض النجوم والسياسيين الذين يعبرون عن الاندماج في المواطنة الديمقراطية، ولكنهم غالبا ما يجدون أنفسهم يمثلون أو يلعبون دور ممثلي هوية. يلعبونها برغبتهم عندما يريدون استخدامها كتهمة بالعنصرية ضد من يعيق تقدمهم، ومن قبل آخرين عندما تستخدم الهوية للانتقاص من حاملها سلبا بالهمس وبالعلن. ولماذا على شاب من أصل عربي أن يفاخر بانجازات لاعب كرة من أصل عربي؟ أليست هذه قواعد لعبة اجتماعية تفرض سياسة هوية من نوع معين؟ الفرق هو فقط أنها سياسة هوية مقبولة تعطي الحق بالمفاخرة دون مساواة، وهي قادرة على احتواء الهويات في آفاق غير مهددة للاستقرار الاجتماعي من نوع ملاعب كرة القدم أو استهلاك الاختلاف في صناعة الاستعراض على أنواعه والتسلية.

وصلت سياسة الهوية حد العبث في أيامنا في الولايات المتحدة تحديدا اذ تقدم كوندوليزا رايس للأمريكيين الأفارقة في لويزيانا لتصلي معهم في الكنيسة كتعويض عن شعورهم بالغبن، ويتوقع النظام منهم أن يفاخروا بها بغض النظر عن تبنيهم لسياستها لأنها بلون بشرتهم. أما روزا باركس فتصادر ليحتفي بها النظام القائم في حين أنه من المبرر للأمريكيين الأفارقة الاحتفاء بها بالذات على مستوى الهوية بمعناها الحصري، أي بمعنى دفاعها عن الهوية ليس كإنجاز ولا كنوع من العنصرية، بل ضد العنصرية التي حطت من قدر أصحاب لون بشرة بعينها.

لقد علمنا الفرنسيون بالممارسة ان النموذج الفرنسي القائم على الاندماج لا يعني التجرد من الهويات غير الفرنسية وقبول كل من تفرنس فحسب، بل يعني أيضا أنه ليس كل إنسان قادراً على التفرنس الكامل، وان الاندماج قد يعني الاحتفاظ بهويات “غير مضرة” في كرة القدم والكوميدي والسياسة الاحتوائية والتخلي عن أخرى تضر بالتجانس، بل وتعني أيضا عندما يلزم عدم التمسك بالتجانس ومنح الفقير هوية مختلفة يرتاح في داخلها من ناحية ولا يهدد نمط حياة التيار المركزي في المجتمع ولا يشعره بعدم الأمان. وهي قبل كل شيء تعني عدم رؤية ما هو مختلف طالما حشر في “جيتوات” وضواح تعج بالعاطلين عن العمل بنسب تصل إلى ثلاثين بالمائة خارج المدن الفرنسية الكبرى، خارج مجال النظر.

وفعلا نجد أن خصم أبناء المهاجرين من شباب الضواحي وزير الداخلية نيكولا ساركوزي بالذات ليس مجرد داعية للاندماج بل هو مستعد أن يتسامح النظام مع بعض الفروق والإبقاء عليها، وهو تسامح إقصائي لمنع اندماج بعض العناصر المهاجرة. وفي نفور ساركوزي من دمج البعض من ناحية، وفي مواقفه المتشددة باستخدام العنف في مكافحة الجريمة وعالم الجنايات الصغيرة والجنوح في الضواحي من ناحية أخرى تعبير عما يدور في خلد طبقته الاجتماعية أكثر مما يعبر شيراك. والفرنسيون يفكرون مثله ومثل شيراك، ولكنه يقول ما لا يقوله الأخير. إنه فتى كوابيس شيراك.

وقاحته وقاحة الشاب العصامي الحاقد على والده المهاجر الذي هجر أمه الفرنسية الناجحة التي احتضنت الوالد المهاجر من هنغاريا، وتغري سيرته الذاتية بتحليل تعاطفه مع أمه، ضد والده المهاجر، التي احتضنته وهجرها، أو عقد نقص وحسرة ونزعة انتقام ورغبة في الانتماء إلى التيار المركزي في المجتمع الفرنسي ورثها من أب هنغاري من عائلة نبلاء فقيرة هرب من الاحتلال الشيوعي الى فرنسا عام 1944 وليس من الاحتلال النازي. قد يخطر بالبال ألف تحليل إذا اطلع المرء على سيرة الرجل وطموحه الجامح وغضبه ورغبته أن يستثمر في طموحه السياسي ناخبين مؤيدين لسيادة القانون ولهوية فرنسية قوية وصلبة ضد الهوامش الفقيرة من المهاجرين. كان شيراك يجتذبهم دون أن يضطر لاستخدام تعابير خصمه ووزيره العاق والناجح. ولكن كاتب هذه المقالة يعترض على هذه المغريات المنهجية، فليس هذا هو الأساس.

الأساس هو أن النظام الاجتماعي السياسي السائد يفرز من أمثال ساركوزي وشيراك ودي فيلبان من يدعي أن الطريق هو إما طريقه أو سيطرة عصابات المخدرات والإسلام الراديكالي. وفي ذلك استيراد لتقسيم بوش للعالم الى داخل المجتمعات الغربية: إما معنا أو ضدنا. ولذلك أيضا يتصل الزعماء العرب كاستمرار للاجابة على نفس السؤال الذي طرحه بوش: معكم في الداخل والخارج ضد نفس العدو المفترض.

الأساس أنه يتم تجاهل أن العنف وأعمال التخريب هي ظاهرة مجتمعات مهاجرين مهمشة فقدت هرميتها التقليدية وفقدت بنيتها التقليدية ومرجعيتها، فقدت مثلا سلطة الوالد العاطل عن العمل وبات يجسد حالة ضحية التهميش، مجتمعات مهاجرين بوعي لحاجات مجتمع استهلاكي مع احباطات وجوده على هوامش مجتمع رأسمالي استهلاكي متقدم وفي مجتمع جماهيري مزدحم بالعنف والصراع على مجال الحياة. لا علاقة هنا للإسلام ولا لهوية أهل هؤلاء الشباب الإسلامية أو العربية بعينها. حتى لو تضامنوا مع هذه الهوية، وحتى لو اجتمعوا في الجوامع، فلو كانوا غير مسلمين لاستخدموا هويتهم ومراكزهم الدينية بنفس الأسلوب.

أفاقت باريس على احتجاجات عنيفة يرافقها تخريب لممتلكات الجيران ومدارسهم، أعمال عنف، ما لبثت ان سميت أعمال شغب ثم، صدق او لا تصدق، “انتفاضة”؟ ثم دار نقاش هل تصح التسمية، والتعليل لعدم صحة التسمية اقبح من ذنب التسمية ذاتها: قسم كبير من الشباب الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا مسلمين وليس للاحتجاج أهداف سياسية!! لا حاجة لولوج نقاش حول هذا التصور العميق للانتفاضة الفلسطينية على أنها أعمال شغب يقوم بها شباب مسلمون يحرقون ويكسرون لأهداف سياسية. ولكن حقيقة أن صحفا جدية في أوروبا أوردت هذه الحجج والحجج المضادة تدل على حجم المصيبة. ليس فقط غباء وجهل في تصور الانتفاضة، بل أيضا في تصوير ما يجري في بلادهم.

لا تنفك وسائل الإعلام تبحث عن ظواهر بعيدة لتستخدمها أداة توضيح لتصوير الوضع الجاري في بلادها، مع أن الظواهر المستخدمة كأدوات توضيحية ويفترض أنها تصور الوضع هي أيضا غير مفهومة للمشاهدين أو القراء. والنتيجة أنها تستخدم للتخويف. وأعمال الشغب في باريس تستخدم أيضا دون أن تدري للتخويف من الانتفاضة ومن الإسلام ومن العرب، والعرب والإسلام والانتفاضة تتحول كلها إلى كتلة غامضة لا يظهر منها سوى شباب يرمون الحجارة خلف سحب من الغاز المسيل للدموع ويلعبون مع الشرطة ورصاصها المطاطي لعبة القط والفأر. لا معرفة، ولا تقريب للأذهان، بل مجموعة انطباعات لا تقدم في موقف أحد وآرائه المسبقة، بل تزيدها حدة. وطبعا تتوالى الردود المطمئنة ان فرنسا لم تصل بعد إلى ذلك. وتصل أكثر محاولات الفهم انفتاحا في مقابلات مع شاب تروي بالدراما خلفيته الاجتماعية التي أوصلته إلى التضامن مع شبان من جيله قائلا إنكم لم تنتبهوا إلينا لولا الحرائق التي نشعلها.

هذا هو قدرنا المتكرر مع الإعلام عند كل موجة عنف بنيوية يهتز لها النظام القائم. هذا هو طبع الإعلام وهذا هو طريقه.

منذ ما جرى من ايام رودني كنج عام 1991 في لوس انجلوس الى ايام الضواحي الباريسية، وما سوف يجري في غيرها بالضرورة البنيوية هو وضع سياسي واقتصادي داخلي، لا انتفاضة ولا غيرها. وهو ليس صراع حضارات ولا ثقافات ولا غيرها. فلا المسلمون ولا الافارقة الآخرون يمثلون ثقافات من خارج فرنسا، إنهم مسلمون فرنسيون، وأفارقة فرنسيون. لقد جرت محاولات بائسة في الصحافة الصفراء وغيرها لربط الموضوع مع “القاعدة”. ولم يعدم المشهد صحيفة عربية واحدة على الأقل أكدت وجود أدلة حول تورط سوريا وايران وحزب الله بالموضوع. ليت ذلك كان صحيحا، يقول صديق لي ضاحكا، فلو كان لدى امريكا وفرنسا القدرة على استثارة اعمال من هذا النوع في دمشق وطهران لاستثارتها...لقد تم تهميش القضية الاجتماعية إلى الضواحي وتحولت من قضية طبقية إلى قضية هوية ومهاجرين، طمست مسألة الهوية والكرامة والاعتراف والاحترام وغيره من التعابير التي يكثر الخبراء من استخدامها في هذه الأيام مسألة الظلم الاجتماعي والتهميش وشح الفرص والفجوة التعليمية والبطالة والفجوة في الدخل والعنصرية. ويفترض أن هذه هي القضايا لو لم يكن هؤلاء أبناء مهاجرين من مستعمرات سابقة ودول عالم ثالث.

وقد كان المهمشون مرة محليين تماما. منذ تلك الفترة تطور المجتمع الرأسمالي الى مرحلة تاريخية جديدة. دخل عمال أجانب بدل العمال المحليين وخفت حدة الاستقطاب الاجتماعي المحلي بتوسع الطبقة الوسطى وتغيرت بنية القوى العاملة وتطور المجتمع الاستهلاكي. وبقي العمال الأجانب يقومون بأعمال لا يقوم بها المحليون، فهمشوا مرتين اجتماعيا على المستوى الطبقي وعلى مستوى انتمائهم، الذي أصبح يسمى مستوى الهوية. الهويات تصنع وتتشكل ويعاد تشكيلها وتتغير وظائفها. وفي هذه الحالة تتحول إلى ملجأ لحالة التهميش الاجتماعي والطبقي، وإلى أداة تضامن، وإلى استثمار سياسي فيما بعد، ولكنها في كافة الحالات ليست الهوية الأصلية، إذا كان هنالك هوية أصلية أصلا، بل هي هوية جديدة. ما زال انتماء هؤلاء الشباب هو للحي، للحارة وللتضامن بين شبابها، وللهامش الذي يريد أمثال ساركوزي اقتحامه لفرض قواعدهم فيه مع إبقائه هامشا. إنهم يدافعون حتى الآن عن حيزهم الحياتي ومجالهم الحيوي الذي تبقى لهم بما فيه من جنوح ومخدرات. أما الصراع وتسييسه وتحويله الى صراع هويات من قبل سياسيين طموحين من أمثال وزير الداخلية الفرنسي وخصومه من نفس الحزب يمشون الى هدفهم ولو على جثث، فلا بد أن يطور هويات جديدة وتضامنات أخرى.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)