لأبي ابراهيم ابن وحيد. غالباً ما كان أبو ابراهيم يُتّهَم بأنّه <<ينزع>> إبنه بسبب كثرة الدلال. وحدث أن أنّبه أحدهم قائلاً: <<يا أبو ابراهيم، ما بيصير هيك. بس يغلّط ابنك، لازم تعيّط عليه>>. فما كان من أبي ابراهيم إلا أن أجاب: <<معك حق. بس شو بعملّك إذا برهوم ما بيغلّط>>.
لا شكّ أنّ أبا ابراهيم كان يهزّ رأسه موافقاً، وهو يستمع إلى الخطاب الأخير للرئيس السوري، لا سيّما ما ورد في الجملة التي تختصر روح الخطاب: <<لو أخطأت سوريا لما هاجموها>>. تلك الجملة التي تضم <<واو الجماعة>> الدالّة على المستعمرين الذين يشنّون الهجوم، وسوريا التي لم تخطئ، والتي برغم ذلك، بل بسبب ذلك، لا يكفّون عن التعرّض لها. إنّ هذه الصورة المفتاح يراد لها أن تكون كافية لتعبئة الشعب السوري و<<الشرفاء>> من الشعب اللبناني في مواجهة المستعمِر العائد إلى المنطقة.

قد يكون من السذاجة (أو المبالغة في ادّعاء الذكاء والمعرفة) اعتبار أنّ المستعمِر ليس عائداً إلى المنطقة. لكن، في الآن نفسه، تفترض السذاجة عينها أنّ نفي أطنان من <<الأخطاء>> هو العدّة المناسبة لمواجهة المستعمرين الجدد. فباستطاعة الرئيس الأسد مثلاً أن يتّهم الاستعمار والإمبريالية والضغوط الخارجية بما يشاء. لكن من الصعب اتّهامها ب<<خلق شرخ بين الدولة والشعب>>. فالنظام البعثي لم ينتظر الخارج ليوجد هذا الشرخ بينه وبين الشعب. إنّ هذا الشرخ بالذات هو الذي يجعل من الدعوة إلى تهميش كلّ ما عدا الضغط الخارجي، واعتباره مجرّد <<تفاصيل>>، عمليّة بالغة الصعوبة.
فالشعب السوري، حتّى في لحظة حثّه على التسليم لخيار المقاومة (وليس الانخراط في هذا الخيار) في مواجهة الفوضى، لم يوعَد إلا بإصلاح عَرَضيّ وبطيء، قبل أن يتمّ تهديده بأن <<من يرفع صوته ضد بلده بالتوازي مع الخارج>> ستُسقَط عنه صفة الوطنية، ويصبح في عداد الخونة. النظام السوري بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الوحدة الوطنية. لكنّها الوحدة الوطنية التي تُعزَّز، وفقاً للرئيس السوري، عبر اصطفاف الشعب، كلّ الشعب، وراء النظام. ولا تفترض الوحدة الوطنية أيّ حركة من قبل النظام باتّجاه الشعب، اللّهمّ إلا المزيد من الضغط الأمني لأنّ البلد مقدم على <<حرب>>.

في حديثه عن لبنان، تبدو مهمّة الرئيس السوري أسهل. فهو، على الأقلّ، يقول نصف الحقيقة. فالرئيس السوري محقّ بأنّ ثمّة أبناء بارّين لسوريا انقلبوا عليها. لكنّه أغفل أن يذكر أنّ الأب ميّز بين أبنائه، فدفع بعضهم إلى العصيان.
والرئيس السوري محقّ بأنّ ثمّة من يريد أن <<يتاجر بالدم>>. لكنّه أغفل أنّ شرط هذه التجارة هو وجود الدم نفسه. وأنّ أيّ مفاضلة بين مَن أراق الدم وبين مَن تاجر به، هي مفاضلة لا تصبّ حتماً في مصلحة الأوّلين.

والرئيس السوري محقّ بأنّ ثمّة من يسعّر عدداً من المقالات والساعات التلفزيونية. لكنّه أغفل أنّ دم سمير قصير لم يجفّ بعد. وإنّ أيّ مفاضلة بين مَن يهدّد ويقتل الإعلاميّين، وبين مَن يسعّر ويدفع لهم، هي مفاضلة لا تصبّ حتماً في مصلحة الأوّلين.
والرئيس السوري محقّ بأنّ في لبنان عبدة مأمورين. لكنّه أغفل ذكر وجود طغاة آمرين، وهم ليسوا كلّهم وجوهاً للمستعمِر. هؤلاء الآمرون الناهون الذين لن ينتفع الشعب شيئاً سواء رفعوا رؤوسهم أم أحنوها، طالما أنّ كلتا الحالتين تفترض من الشعب أن يصدّق أن <<برهوم ما بيغلّط>>. لكن، حتّى وإن صدّق الشعب ذلك، فإنّ مجلس الأمن هو مجلس الأمن. وقد يباشر فرض العقوبات، من دون أن يسأل حتّى: <<مين برهوم>>؟.

إنّ خطاب الرئيس السوري، وردود الفعل اللبنانية عليه، تؤكّد أنّ سوريا ولبنان في ورطة، وأنّ النظام الحاكم في سوريا، والأكثريّة الحاكمة في لبنان، بعيدون جداً عن القدرة على التعاطي مع الآتي، وهو أعظم.

مصادر
السفير (لبنان)