لديّ عادة لم أستطع التخلص منها مذ كنت صغيراً وحتى وخط الشيب ما تبقى من شعر في رأسي.. وهي عادة شرب زوم البندورة. إذ ما إن أفرغ من التهام البندورة المقطعة في صحن حتى أسارع إلى شرب المتبقي منها بطريقة وضع حافة الصحن على فمي وارتشافها بصوتٍ مسموع حتى آخر قطرة منها.. وأنا في غاية النشوة واللذة.
ومنذ فترة دعاني صديق عزيز يتبوأ موقع مدير مبيعات في إحدى الشركات إلى مأدبة غداء دعا إليها مديرها العام بمناسبة بدء تنفيذ الخطة السنوية للشركة. حاولت الاعتذار منه بذريعة أن لا علاقة لي بالشركة وأنني لا أحبّ الأكل في المطاعم. ثم إنني عصبي المزاج جداً ولا أتحمّل رؤية الفاسدين. وخاصة أن مديره العام تفوح رائحة الفساد منه على بعد أميال... وغير ذلك من ذرائع وحجج. إلا أنه أصرّ على دعوتي مبرراً بأنه يحق لكل مسؤول في الشركة أن يصطحب معه ضيفاً إلى المأدبة, وإنه لم يجد شخصاً آخر جديراً بهذه الدعوة سواي...
وأمام إصراره العجيب قبلت الدعوة وقلت له ذنبك على جنبك.
في الموعد المحدد كنت وصديقي إلى جانب كبار المسؤولين في الشركة, على طاولة الطعام في أحد المطاعم الفخمة. وبعد توزيع المقبلات والمازوات وأخواتها... مددتُ يدي إلى صحن الخضار المليء بالخيار والبندورة والفليفلة الخضراء والنعناع... واخترت حبتين كبيرتين من البندورة الحمراء الشهية وبدأت بتقطيعها في صحني إلى شرائح, وشرعت بتناولها بواسطة الشوكة حتى أتيت عليها..

وهنا بدأت شهوة شرب الزوم المتبقي تنهش نفسي الضعيفة. ولما كان من المستحيل استخدام الشوكة في شرب الزوم, أو مسك الصحن والارتشاف منه كما أفعل في البيت عادةً, فقد طلبت من النادل إحضار ملعقة. وبدأت أتحايل على الزوم لشربه بواسطتها. ولكن عبثاً فالصحون في المطاعم مسطحة تقريباً, وبالتالي فإن استخدام الملعقة يكون والحال هذه عديم الجدوى. وبدأتْ تلحّ عليّ فكرة وضع الصحن على الشفتين.

حاولت جاهداً إقناع نفسي الأمّارة بالعيب الإقلاع هذه المرة عن عادتي. وأن الزوم المتبقّي قليل لا يعدو ملء نصف كشتبان. ولكن هيهات...!

بدأت أتفرّس بالوجوه التي تحيط بالمائدة وجهاً وجهاً, وأراقب سلوكهم في تناول الطعام متحيناً الفرصة المناسبة.
يا إلهي! إنهم جميعاً من طبقة النبلاء يتحدثون بأصوات أقرب إلى الهمس. ويتناولون طعامهم ببطءٍ شديد, ويأنفون من تناول الطعام بطريقتنا؛ فمثلاً ترى الواحد منهم عندما ينوي تناول الخيار, يقوم بقطع طرفي الخيارة بطريقة جائرة بحجة أن طرفي الخيار طعمه مُرّ. فيتنازل طوعاً عن ثلث الخيارة!

قلت في نفسي فليتصرفوا كما يحلو لهم. المهمّ أن يتاح لي الظرف المناسب وأحقق رغبتي بشرب عصير البندورة اللذيذ.
وبينما كنت أصارع رغبتي وإذ بالوجبات تحضر إلى الطاولة, ويقوم النادل بتبديل الصحون ويساعده آخر بوضع الأطباق العامرة بالمشاوي.

عندما اقترب النادل ومدّ يده إلى صحني اعتذرت منه بلباقة وقلت له (لم أنته منه بعد, اتركه لي لو سمحت!) وبنفس الوقت كنت أراقب كلصّ حاذق المسؤولين الذين يجلسون إلى جانبي. رأيتهم مشغولين بالأحاديث الجانبية وبعضهم بدأ يضع قطع اللحم في صحنه..
اغتنمت الفرصة ووضعت الصحن على شفتيّ وبسرعة البرق شرقتُ ما فيه. وبينما كنت أنزّل الصحن رأيت المدير العام ينتبه إليّ ويتطلّع صوبي بنفور واشمئزاز. تجاهلته وأعطيت صحني الفارغ للنادل. وبعد لحظات رمقتُ المدير العام بطرف عيني وجدته ينظر إليّ عابساً وهو يشقلني بوقاحة من فوق إلى تحت. مرة أخرى تجاهلت نظرته الاستفزازية الحاقدة. إلا أن وجهي اصطبغ بلون البندورة من شدة خجلي. ورحتُ أتشاغل بحديثٍ جانبيّ مع صديقي.. مقاوماً براكين الغضب التي بدأت تزأر في أعماقي.

اختلستُ من جديد نظرة صوب المدير العام, ألفيته مازال يحدق بي باحتقار وكأن عداوة قديمة تجمعني معه. أحسست بأن جرحاً أصاب كرامتي بالصميم. نظرت إليه متحدياً وسمّرت عينيّ عليه لأفهمه بأن لحمي مُرّ كطرفي الخيارة. رفع حاجبيه وزمّ شفتيه باستهزاء وكأنه يقول لي أنت واحد تافه, حشرة وضيعة, لا تليق بك جلساتٍ كهذه.
لحظتها تمنيت لو أن بحوزتي طيرٌ مصاب بالأنفلونزا... لمرّغتُ أنفه به.
استعر القهر في داخلي لدرجة أحسست أنني سأمزق ثيابي مالم أتصرف. نهضت من فوري وتوجهت إليه وأمسكته بتلابيبه ودفعته قائلاً: (شوفْ ولاه! شرفٌ لي أن أتناول عصير البندورة بالطريقة التي رأيتني فيها, على أن أكون لصاً محترفاً مثلك.. يلعنك واحد فاسد ابن فاسد...)
تناولت من أمامه حبة بندورة ومعستها في وجهه بعنف وغادرت المطعم وسط ذهول الجميع.