أدى تقرير لجنة التحقيق الدولية الأخير إلى صدور القرار رقم ،1636 الذي يطالب سوريا بالتعاون الكامل مع التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري تحت طائلة التهديد باستخدام البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة والمتضمن اشتراع العقوبات والقوة ضد الدول التي لا تنفذ قرارات مجلس الأمن الدولي• وقد انتقدت سوريا القرار الثاني هذا، كما انتقدت بعنف القرار الأول رقم •
1559 لكنها قالت إنها ستقوم بالتعاون (الكامل)، ومهَّدت لذلك بتشكيل لجنة تحقيقٍ خاصة للتلاؤم مع لجنة ميليس• وبعد أقلّ من أسبوع على تقرير ميليس الثاني هذا، والذي صدر على أساس منه التقرير الجديد، أُعلن عن تلقّي سوريا طلباً بإرسال ستةٍ من كبار رجال الأمن فيها- ومن بينهم آصف شوكت صهر الرئيس بشار الأسد، مدير المخابرات العسكرية الحالي- إلى مقر اللجنة بضاحية المونتفردي في التلال المشرفة على بيروت، للاستماع إلى أقوالهم أو التحقيق معهم• وبين هؤلاء أيضاً رستم غزالي، الذي كان مدير جهاز الأمن السوري بلبنان، عشية اغتيال الرئيس الحريري، وقبل انسحاب القوات السورية من لبنان، وعددٍ من معاونيه• وستحلُّ اللحظة الحاسمةُ بعد أيامٍ، عندما تُسلّم سوريا المسؤولين المذكورين أو لا تسلّمهم• لكنّ المرجَّح الآن ألاّ يفعل الرئيس بشار الأسد ذلك، بعد خطابه بجامعة دمشق يومَ الخميس الماضي، والذي هاجم فيه كلَّ القرارات الدولية، ووزّع الاتهامات على الجميع وبخاصةٍ رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة وتيار ’’المستقبل’’ النيابي بزعامة سعد الحريري• لكنّ الرئيس الأسد، وبعد وصفه لمحاولات سوريا لإظهار التعاون في التحقيق دون جدوى، عاد للقول إنه سيتعاون مع المجتمع الدولي! وقد كان موقف الأسد الهجومي مفاجئاً، لأنّ هناك ما يدلُّ على أنّ سوريا تلقّت ضماناتٍ بشأن نظام الحكم فيها، إن تلاءمت بالقدر المقبول مع القرارات الدولية• نعرفُ مما تمَّ في العلن تصريح الرئيس حسني مبارك حول ’’حكمة الرئيس الأسد’’، وزيارة وزير خارجية قطر للرئيس الفرنسي شيراك، وتصريحه أمام قصر الأليزيه بالحرص على الاستقرار في سوريا، والحرص في الوقت نفسه على تنفيذ القرارات الدولية• وقد سارع مراقبون عديدون للحديث عن بدايات ’’صفقة’’ بين سوريا والولايات المتحدة• لكنّ الولايات المتحدة صرَّحت أنه لا صفقة هذه المرة، وإنما خطوات متبادَلة، إذ تعرفُ سوريا بعد سنواتٍ من المناكفات والتجاذُبات مع واشنطن أنه لن يحدث شيء دون مقابل، والأمر كما قال شكسبير في عنوان مسرحيته الشهيرة: دقّة بدقّة! وقد أتى إلى سوريا في جولةٍ بين السعودية ودمشق ولبنان أمين عام الجامعة العربية، كما أتى أيضاً الأمين العامّ للأمم المتحدة كوفي أنان؛ وكل ذلك في السياق ذاته: متابعة تنفيذ القرارات الدولية المتكاثرة، أو تحدث الفوضى!

وعلى وقْع هذه التحولات الجارية أو المتوقّعة، وأهمُّها استدعاءاتُ لجنة التحقيق، وخطاب الأسد، تتوالى ردودُ الفعل في لبنان وسوريا وطهران وواشنطن• وطهران لا تصرّحُ كثيراً، لكنّ المفهوم أنّ ’’حزب الله’’ في حركته وتصريحات مسؤوليه يعبّر عن رأيها ومصالحها• فالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله كانت له مواقف عنيفةٌ في خطابه بيوم القدس قبل عشرة أيام، وهي تشبه كلام الأسد في الخطاب المذكور• فقد أعلن الأمين العام لـ’’حزب الله’’، عن حماية السلاح الفلسطيني خارج المخيمات بلبنان، كما هاجم تقرير لارسن الداعي لاستكمال تطبيق القرار رقم 1559( بشأن سلاح حزب الله والفلسطينيين)، وتصدّى بالشجب لتقرير ميليس واتهمه بالتسيُّس، وأعلن الوقوف إلى جانب القيادة السورية والشعب السوري! وكرَّر مسؤولوه الشيء نفسه في ردة فعلٍ على خطاب الأسد، وعلى الاجتماع الخاصّ بالكونغرس الأميركي، والذي حضره نوابٌ أميركيون من أصلٍ لبناني، ونائبٌ مسيحيٌّ لبناني من كتلة ’’المستقبل’’ التي يتزعمها سعد الحريري• وقد كان موضوع الاجتماع البحث في أسلوب استكمال تنفيذ القرار رقم ،1559 والذي نُفّذ من بنوده بندُ الانسحاب السوري، وبقي بند سلاح ’’حزب الله’’ والفلسطينيين ، كما سبق ذكره•

ولذلك فالموضوع الآن، إلى جانب مراقبة مدى وكيفيات التلاؤم والتحولات في سوريا، مراقبة ’’الصراع على سوريا’’ بين طهران من جهة، والقاهرة والرياض وقطر، ومن ورائها واشنطن وباريس، من جهةٍ ثانية• ونعرفُ من وسائل ضغط طهران: ’’حزب الله’’ وسلاحه• لكننا لا نعرفُ قُدُرات طهران بالداخل السوري أو في أوساط الحكومة السورية وأجهزة الأمن هناك• فإلى أي مدى تستطيع دمشق الابتعاد عن طهران؟ وما هي ماهية الضمانات التي تلقّتها؟ وما معنى ’’التعاون الكامل’’؟ وهل يعني ذلك الانكفاء السوري التامّ تجاه لبنان، وتجاه العراق، وتُجاه الفصائل الفلسطينية المتمركزة بدمشق، والتي ما تزال تريد متابعة الكفاح المسلَّح ضد إسرائيل؟! وما اقتصرت ردود فعل ’’حزب الله’’ على التصريحات العنيفة، بل عاد التوتر- وإن يكن محدوداً- على الحدود مع إسرائيل• قالت أَوساطٌ دوليةٌ ولبنانية إنّ أربع قذائف إسرائيلية سقطت داخل الحدود اللبنانية بطريق الخطأ أثناء التدريب، بينما قال مسؤولو ’’حزب الله’’ وأمينه العامّ إنّ عدد القذائف ثمانون أو مائة• ثم إنّ ’’حزب الله’’ ليس الجهة الوحيدة المتوتّرة بلبنان، كما أنّ سلاحه ليس موضوع النزاع الوحيد• فمنذ شهر تتجاذبُ الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني مع مسلَّحي أحمد جبريل (الجبهة الشعبية- القيادة العامة) بالناعمة جنوبي بيروت، وفي سهل البقاع وهؤلاء (وعددهم حوالي المائة والخمسين) ما جاءوا من المخيمات• بل من سوريا• ويُضافُ لذلك قولُ الأسد إنّ لبنان صار ممراً لكل المؤامرات على سوريا!

وأعني بأنّ التوتُّر لا يصدر عن ’’حزب الله’’ فقط؛ موضوع رئيس الجمهورية اللبناني الحالي، والذي مدَّد له السوريون قبل خروجهم بأكثر من عام، وصدر القرار الدولي رقم 1559 عشية التمديد له، للحيلولة دون ذلك من دون جدوى• وقد أمَّل لبنانيون كثيرون- على رأسهم تيار ’’المستقبل’’- أن يُدين تقرير ميليس الثاني الرئيس أو يشتبه به فيسهُل عزلُه؛ لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدُثْ• والمسيحيون منقسمون من حوله: كتلة الجنرال عون النيابية تقول إنّ الرئيس لحود لا يمكن عزله بحسب الدستور إلاّ بالخيانة العظمى، أو بالاتهام من جانب لجنة ميليس• بينما يقول مسيحيون آخرون: إنه لا حاجة لانتظار الاشتباه بالرئيس، فموقع الرئاسة يتعرض للاهتزاز بسبب التنازُع من حوله وسوء سمعته، وإن بقي الأمر على هذا النحو، فستكون في ذلك إساءة كبرى لمصالح المسيحيين، نتيجة الاختلال في المواقع والتوازُنات داخل النظام• ثم إنّ الرئيس نفسه كان جزءا من النظام الأمني السوري/ اللبناني، وقد زال هذا النظام، فلا بد من إزالة الرئيس، وإلاّ بقيت العوائق أمام التغيير، وزادت صعوبات لبنان في الحصول على المساعدات العربية والدولية التي يتطلبها وضعُهُ الاقتصادي الصعب والذي تفاقَمَ باغتيال الرئيس رفيق الحريري•
في أواسط الستينيات من القرن الماضي، أصدر ’’باتريك سيـل’’ كتابه الشهير: ’’الصراع على سوريا’’ بشأن محاولات الاستقطاب للنظام فيها في الخمسينيات بين المحورين: الهاشمي (في العراق والأردن)، والسعودي/المصري• ثم زال المحوران، وخرجت مصر أواخر السبعينيات من صراعات المشرق العربي، وانهمك العراق ’’الجمهوري’’ بالحرب مع إيران، فصارت سوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد قطباً للمشرق العربي، بدلاً من أن تكون موضع تجاذُب• أما الآن، وفي ظل نظام القطب الواحد، فقد عادت سوريا نتيجة السياسات المتجمدة في الداخل، والمخطئة في لبنان والعراق، موضع تجاذُبٍ وصراع• أمّا لبنان فقد صدرت بشأنه خلال عامٍ أربعة قراراتٍ دولية، وليس ذلك بالأمر الطبيعي: فهل يخرج النظام السوريُّ من المأزق، أم أنه يئس، كما يبدو من خطاب الأسد، فاتجّه للمواجهة لإنقاذ ما يمكنُ إنقاذُه؟ وهل يستطيع النظام اللبناني النجاة رغم الصراع على سوريا، ورغم الانقسام اللبناني؟ سؤالان مصيريان، قد لا تتأخر الإجابة عنهما سنواتٍ بل شهوراً!

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)