سقط اتفاق اوسلو، وسقط معه شعار الحل التفاوضي على قاعدة إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة إلى جانب دولة إسرائيل. وفشلت خطة «خريطة الطريق»، وانحدرت اللجنة الدولية الرباعية الراعية لها إلى مستوى نسيان الخطة كلها، والاكتفاء ببيان يطالب السلطة الفلسطينية بتصفية منظمة «الجهاد الإسلامي». وتخلى الرئيس الأميركي عن «رؤيته» ووعوده، وأعلن أنه لا يضمن إنشاء دولة فلسطينية في فترة رئاسته الثانية التي تنتهي في 2009، ورفض مطلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس للضغط على إسرائيل من أجل أن تطبق التفاهمات التي وافقت عليها، وأبلغه أن عليه أن يعود إلى التفاوض مع آرييل شارون، وهو سيوافق فقط على ما يتم الاتفاق عليه في هذه المفاوضات.

وبالمقابل... نشأ وضع جديد، وبرزت قضايا جديدة أصبحت هي مدار البحث والتفاوض: الانسحاب من غزة، الجدار الفاصل، ضم المستوطنات إلى إسرائيل، القدس خارج نطاق التفاوض، التأكيد على يهودية دولة إسرائيل. وأصبح البحث بالمعابر، وميناء غزة، ومطار غزة، والطريق الواصل بين الضفة وغزة، ومطالبة السلطة الفلسطينية بتصفية الفصائل الفدائية، هو برنامج العمل الجديد للتسوية السياسية. ووصلت حالة التدهور هذه إلى حد كاريكاتوري، فحين اشتكى عباس لبوش بأن إسرائيل لا تبادر إلى موقف إيجابي لمساعدته في مهمته، حتى أنها ترفض تسليمه ذخائر لبنادق رجال الشرطة من أجل حفظ الأمن، بادر الرئيس بوش وأبلغه بكرم أنه سيتبرع له بخمسة ملايين طلقة، بل وزاد في كرمه وأبلغه أنه سيوفد له مندوبا خاصا ليساعده في مهمة «القضاء على العصابات» الفلسطينية. ثم كان هناك مظهر كاريكاتوري آخر حين خرج أعضاء الوفد الفلسطيني من اللقاء مع بوش، ليمطروا الصحافة بتصريحات عن النجاح الذي تحقق في هذه المفاوضات، مع أننا لم نسمع حتى الآن أن اجتماعا فلسطينيا قد عقد واستمع إلى تقرير عن نتائج هذه المفاوضات، وهكذا بقي سر النجاح الفلسطيني خبيئا في القلوب، مع أن الصحافة الأميركية أمطرت الجميع بسيل من الوقائع التي كشفت مقدارا هائلا من الفشل تبدى واضحا عقب ذلك اللقاء.

خلاصة هذا الوضع، أن المسؤولين الأميركيين يقولون للمسؤولين الفلسطينيين صراحة، ما يقولونه للمسؤولين العرب جميعا: عليكم أن تفكروا بشؤونكم الداخلية، أما السياسة الإقليمية فهي شأن أميركي. وفي حالة الفلسطينيين فإن السياسة هي ما تقرره حكومة إسرائيل.

ولا يكتفي الأميركيون والإسرائيليون بذلك، بل يذهبون إلى ما هو أبعد، فيرسمون خططا لكيفية التعامل مع الشؤون العربية الداخلية، حيث المطلوب سياسة «شفافة» كما يقولون في التعامل مع الأقليات القومية والدينية، ومع «كل مكونات المجتمع»، بحيث يتحول كل بلد إلى فسيفساء، وتصبح العلاقة بين كل بلد ومحيطه أنه «جزء منظومة عربية»، حسب قول آخر طبعة ديمقراطية من «إعلان دمشق». أما على الصعيد الإسرائيلي الفلسطيني فلا بأس من التضحية بـ «الشفافية»، والتوجه نحو منع حركة حماس من المشاركة في الانتخابات الفلسطينية، وهنا يدخل موضوع «الإرهاب» ولا تعود حركة حماس جزءا من مكونات المجتمع الفلسطيني. وحين تبادر الإدارة الأميركية إلى الحفاظ على الشكليات الديمقراطية، وترفض موقف إسرائيل الرافض لمشاركة حماس في الانتخابات، فإنها تتغاضى عن خطة إسرائيل باعتقال كل مرشحي حركة حماس للانتخابات، أو اغتيال من يتسنى لهم اغتياله.

وتضع هذه الصورة السلطة الفلسطينية أمام طريق سياسي مسدود، وبخاصة أنها ترفض علنا ما تسميه «عسكرة الانتفاضة»، بل وتعتبر المقاومة المسلحة للاحتلال أمرا يعود بالضرر على الشعب الفلسطيني، وتصر على أن التفاوض هو الطريق الايجابي الوحيد. وحين ترفض إسرائيل التفاوض، وحين ترفض الإدارة الأميركية الضغط على إسرائيل من أجل العودة إلى التفاوض، يصمت المسؤول الفلسطيني ولا يجد ما يقوله، وكأن ما يريده عمليا هو القبول بهذا الذي يعرض عليه، أي الانشغال بتحسين الوضع المعيشي والكف عن ممارسة السياسة، أي اعتبار الفلسطينيين مجموعة الجائعين المحتاجين إلى الطعام، وتجاهل أي هدف سياسي لهم، سواء كان هذا الهدف مقاومة الاحتلال، أو التفاوض من أجل دولة مستقلة، أو تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، ذلك أن الأهداف السياسية كلها مرفوضة، إلا ما تقرره حكومة إسرائيل، وعلى السلطة الفلسطينية آنئذ أن تقبل به، وأن تتعامل معه، وأن تعتبر ذلك إنجازا كبيرا لها ولشعبها.

هذا القبول الفلسطيني المضمر بالتوجيهات الأميركية والإملاءات الإسرائيلية، يفرز على أرض الواقع ضرورة إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية. تعني منظمة التحرير الفلسطينية وجود شعب فلسطيني يطالب بحقوق سياسية، بينما جوهر السياسة الأميركية ـ الإسرائيلية وجود مجموعة من السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، يحتاجون إلى «إدارة» تتولى تحسين شؤون حياتهم المعيشية، وفي مواجهة هذا التناقض الجوهري بين التوجهين، لا بد من إلغاء منظمة التحرير الفلسطينية، التي تنتمي إلى نهج سياسي قديم يتناقض مع توجهات النظام العالمي الجديد كما تعبر عنه الإدارة الأميركية. كذلك لا بد من ربط كل مؤسسات منظمة التحرير بالسلطة الفلسطينية القائمة في رام الله.

انطلاقا من هذا الفهم، يجب أن ننظر إلى المعركة الدائرة بين ما يسمى وزارة الخارجية الفلسطينية (ناصر القدوة)، وبين ما يسمى الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية (فاروق القدومي). تبدو المعركة أحيانا وكأنها صراع شخصي بين الرجلين، وهي أبعد ما تكون عن ذلك. وتبدو المعركة أحيانا وكأنها صراع على الصلاحيات، وصراع على من هو المسؤول عن السفراء والسفارات، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، ولكن انتزاع السفراء والسفارات من الدائرة السياسية لمنظمة التحرير، يجعلها مؤسسة من دون عمل، ويبدو أن هذا هو المطلوب الآن، سواء كان السيد ناصر القدوة يعي ذلك أم لا.

وتدور الآن معركة أخرى حول الصندوق القومي الفلسطيني، فإلى جانب وزارة المالية التي تتعامل مع شؤون السلطة (سلطة اوسلو)، بقي الصندوق القومي الفلسطيني قائما ومستقلا يتعامل مع شؤون منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج. أما الآن فقد تم إلغاء فرع الصندوق القومي الفلسطيني في تونس، وتم تقليص عمل الصندوق القومي في عمان (المركز الرئيسي)، ليصبح مكتب تدقيق فقط، وتم ربط جميع الشؤون المالية الخاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية بوزارة مالية السلطة.

لقد قامت منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1964 على أربع ركائز سياسية: جيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني، ودوائر منظمة التحرير (أبرزها المجلس الوطني والدائرة السياسية)، ومركز الأبحاث الفلسطينية. وقد غابت هذه المؤسسات كلها عن الوجود المستقل، تم ربط بعضها بالسلطة الفلسطينية سابقا، ويجري ربط ما تبقى بالسلطة الفلسطينية حاليا، وتتم بذلك عملية إلغاء وجود منظمة التحرير الفلسطينية كهيئات ومؤسسات، ليبقى منها الاسم فقط. وتبقى صامدة في عمان مؤسسة المجلس الوطني الفلسطيني (سليم الزعنون/ أبو الأديب)، وهي تملك سلطة معنوية كبيرة، وتستطيع أن تحسم في الجدل الدائر، ولكنها لم تفعل حتى الآن.

هل يدرك من ينفذ هذه السياسة، ما سينشأ عن إلغاء منظمة التحرير الفلسطينية من انقسام بين الداخل والخارج؟ هل يدرك أن من نتائج سياسته فصم وحدة الشعب الفلسطيني السياسية، هذه الوحدة التي كانت من أبرز منجزات منظمة التحرير الفلسطينية؟

ليتهم يدركون .....

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)